الجزيرة المهجورة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
في الثلاثين من عمري تخرجت هذا العام فقط في كليتي .. ولي شقيقة وحيدة تصغرني بثلاثة أعوام تخرجت قبلي من كليتها وبدأت قصتنا مع الحياة بزواج أبي من أمي وهو يكبرها بعشرين عاما .. وكان حين تقدم لأمي يشغل منصبا مؤقتا قبله جدي من أجله وقطعت أمي دراستها وتزوجته , ومضت ثلاث سنوات عاشها أبي وأمي في سعادة وأنجبانا خلالها ثم فقد أبي هذه المنصب المؤقت وعاد إلى وظيفته الحكومية العادية فبدأت أمي "تتذكر" فارق السن بينها وبينه وتتحسر على ضياع فرصتها في التعليم وتوالت الخلافات والعراك وتبادل الاتهامات بينهما .. وكلما كبرنا تفاقمت المشاكل حتى أصبحنا نقضي معظم أيامنا مع أمنا في بيت أبيها , وهي تطالب بالطلاق وأبي يرفض بإصرار ويؤيده في ذلك والدها نفسه أملا في الاصلاح ذات يوم.
وفي إحدى هذه الخلافات العنيفة أصيب أبي بنوبة قلبية حادة وكنت وقتها تلميذا بالشهادة الاعدادية فوقفت أمي إلى جواره في محنته وخدمته في مرضه بإخلاص فما أن نجا من الأزمة واسترد صحته وعاد إلى عمله حتى تجددت المشاكل والخلافات بينهما كأن لم يحدث شئ .. ومع كل معركة جديدة كانت أمي تتجه إلى النافذة وتصرخ وتستنجد بالجيران برغم تفاهة الخلاف وترفض توسلاتي لها أنا وأختي الصغيرة بالهدوء وتجنب الفضائح ولا يجدي معها بكاؤنا وإحساسنا الدائم بالقهر والتعاسة والحرمان من الحياة الطبيعية , ثم ينتهي الأمر كالعادة بجمعنا كتبتنا وملابسنا ومغادرتنا بيت أبينا معها إلى بيت جدنا الذي يرجوها ويلح عليها أن ترحم أبي في مرضه بلا جدوى.
لقد كانت أمي تستريح للحياة في بيت أبيها وتجد راحتها أكثر في أن تروي لي وشقيقتي الكثير والكثير عن مساوئ أبينا وتعذيبه لها .. فاسمع هذه المواويل المؤلمة صامتا وحزينا لأني كنت أحب أبي وأشعر بعطفه وحنانه الدافق علينا وأخشى في نفس الوقت إذا دافعت عنه أو تفوهت عنه بكلمة طيبة أن تنفجر في أمي .. وتزداد تعاستنا ومعاناتنا.
ومضت بنا الحياة هكذا إلى أن مات أبي رحمه الله ونحن في "مهجرنا ببيت جدنا وحزنت كثيرا عليه وعلى الأيام الطويلة التي عشناها بعيدا عنه مرغمين وهو محروم منا .. ونحن محرومون منه ومن عطفه وحنانه ".
وعادت أمي إلى بيت أبينا بعد رحيله رحمه الله وساعدها جدي في الحصول على عمل يعينها على مواجهة تكاليف الحياة .. واعتقدت رغم أحزاني على أبي أن متاعب حياتنا قد انتهت إلى الأبد وأننا سنتمتع بالجو العائلي الهادئ الذي لم نعرفه طوال حياتنا .. لكننا واجهنا مشكلة أخرى غريبة هي حب أمنا الزائد عن الحد لنا وخوفها الشديد علينا ورغبتها القاهرة في الإنفراد بنا والاستحواذ علينا لنفسها فقط بلا شريك من أي نوع فكل الناس وأولهم الأهل والأقارب في رأيها يكرهوننا ويحقدون علينا ويريدون بنا شرا ..
ولا أحد في العالم كله يحبنا ويريد لنا خيرا سواها وحدها .. حتى أصبحنا نعيش في جزيرة صخرية مهجورة لا يقيم فوقها سوى ثلاثة أشخاص فقط هم أمي وأنا وشقيقتي الصغرى .. ولا مكان فيها ولا أهل ولا أصدقاء ولا جيران .. فحتى صديقي الوحيد الذي كنت أنس إليه , ظلت أمي تسئ معاملته متعمدة كلما سأل عني حتى فارقني وقطع صلته بي.
وبسبب مخاوفها وهواجسها العديدة وظلت تملأ صدورنا وحقائبنا المدرسية بالأحجبة والتعاويذ وتتأكد من وجودها كل يوم رغم وصولنا للمرحلة الثانوية .. كما ظلت تتصرف في كل شئوننا من أتفه الأشياء .. إلى الأمور المصيرية منها بغير مجرد استشارتنا فيها .. كأنما هي أمور مفروغ منها ولا تحتاج لمناقشة .. فكانت تختار لنا ملابسنا وكتبنا وطعامنا دون سؤالنا عن رأينا في شئ وعندما حصلت على الثانوية العامة اختارت لي رغم معارضتي الكلية التي التحق بها واضطررت للاستجابة لطلبها راغما أمام دموعها وتوسلاتها وكانت النتيجة أن رسبت فيها عامين متتالين وفصلت منها وتحولت إلى كلية أخرى إختارتها بنفسها لي أيضا ومكثت فيها 8 سنوات كاملة حتى تخرجت فيها في العام الماضي فقط.
وحاولت أمي أن تفعل نفس الشئ في شقيقتي عند نجاحها في الثانوية العامة , لكن شقيقتي صارحتني بأنها لن تلتحق إلا بالكلية التي ترغبها وأنها ستضع أمنا أمام الأمر الواقع حتى تصلها بطاقة الترشيح .. وكان يوم وصولها من أسود أيام حياتنا .. فقد ثارت أمي على أختي ثورة هائلة وضربتها بقسوة وتخلصت شقيقتي منها بمساعدتي وهرولت إلى المطبخ مهددة بالانتحار .. فإذا بأمي التي كانت تضربها بوحشية منذ قليل تندفع إليها باكية وتحتضنها ثم توافق على الكلية التي أرادتها ! وكان لهذا أثره في حياة شقيقتي فلم ترسب سوى مرتين فقط في دراستها الجامعية وتخرجت قبلي !
ولكن يبدو يا سيدي أن اختيار شقيقتي لكليتها كان الاختيار الأخير, فقد تخرجت وتمت خطبتها لزميل لها دمث الخلق وميسور الحال , وقد شكا لي خطيبها من أن أمي تريد أن تقرر لهما كل شئ في حياتهما .. وأن أختي لا رأي لها في شئ ولا كلمة سوى في تأييد أمها في ذوقها واختياراتها للأثاث أو الستائر أو الملابس إلخ .. حتى فستان الخطبة اختارته أمي لأختي فكان لونه شاذا وأثار انتقاد الحاضرين , وأخشى إذا استمر هذا الوضع أن تسيطر أمي سيطرة كاملة على حياة شقيقتي مع زوجها .. وأن يؤدي ذلك إلى إثارة المشاكل بينهما وربما إلى الفشل الذي لا أتمناه لها أو لزوجها والأهم من ذلك هو أن شقيقتي قد بدأت تتعامل مع الحياة بنفس نظرة أمي إليها وأفكارها التي فرضت بها علينا العزلة معظم سنوات حياتنا .. فالأقارب عقارب .. والأصدقاء أعداء .. والجيران غيلان , تماما كما ظلت أمنا تردد على مسامعنا منذ انفردت بنا بعد رحيل أبي .. وإذا كنت أستطيع تفسير هذا الأسلوب من جانب أمي بحبها الشديد لنا وغيرتها من أن يشاركها أحد في مشاعرنا ورغبتها في أن نقصر كل حبنا عليها وحدها , فكيف أستطيع أن أبرر هذا التفكير الخاطئ لدى شقيقتي ؟.. وكيف أنقذها من هذا المسلك قبل أن تزف إلى زوجها , لكي تسعد بحياتها معه , وأخيرا أرجو أن أجد لديك إجابة لسؤال آخر يؤرقني بشدة وهو كيف أواصل حياتي مع أمي بعد زواج شقيقتي .. بما لا يغضبها .. وفي نفس الوقت بما يجعل لي كيانا مستقلا عنها ؟ وهل يمكن أن يصل حب الأم لأولادها إلى درجة كراهية العالم كله ليقتصر حبهم عليها وحدها دون العالمين ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولكـــاتـــب هـــذه الـــرســـالـــة أقـــول :
الحب أنواع ودرجات يا صديقي , وحب الأم لأولادها بهذه الطريقة التي تمارسها أمك معكما حب أناني يعكس استئثارا ممقوتا بالذات .. ورغبة خفية في امتلاك الأبناء والسيطرة على حياتهم إلى نهاية العمر كما أنه يحرمهم من حقهم في التفاعل مع الحياة تفاعلا طبيعيا يسهل عليهم الاندماج فيها والتعامل معها، وغرس فكرة كراهية الآخرين في نفوسهم وإيهامهم بأنهم جميعا يتربصون بهم شرا وليس في العالم كله من يحبهم ويحميهم من العالم الخارجي الشرير سوى الأم حيلة نفسية دفاعية معروفة تلجأ إليها بعض الأمهات ممن عشن تجربة تعاسة زوجية مريرة , للاستحواذ على مشاعر الأبناء واقناعهم باحتياجهم النفسي الدائم للأم لحمايتهم من هذا العالم .. وهي فكرة ضلالية خاطئة وخطيرة في نفس الوقت على نفسية الأبناء لأنها تزيد من اعتمادهم على الأم كمصدر وحيد للحب والحماية وتفقدهم القدرة على الاستقلالية واتخاذ القرارات في أي شأن جاد من شئون الحياة بغير معونة الأم .. ومهما بلغوا من العمر وضعف شخصية الأبناء وعجزهم عن مواجهم اختبارات الحياة وعن التواصل مع الآخرين .. وفشلهم في الحياة الخاصة .. نتائج متوقعة لمثل هذه التربية الخاطئة التي تحاول بها بعض الأمهات أن يعوضن حرمانهن من الاشباع العاطفي الطبيعي في حياتهن الزوجية التعيسة بحب أولادهن على هذا النحو المريض والسيطرة عليهم سيطرة كاملة .
ولأن الحب الرشيد هو الذي لا يغفل صالح المحبوب وإنما يتحرى أساسا خيره وسعادته , ولو على حساب مشاعر الطرف المحب ورغباته أحيانا فلقد أمرنا المربي العظيم صلوات الله وسلامه عليه أن نلاعب أبناءنا سبعا ونؤدبهم سبعا ونصاحبهم سبعا , ثم نطلق لهم الحبل على غاربه ليواجهوا الحياة ويكتسبوا خبراتها مسلحين بما غرسناه فيهم من قيم دينية ومبادئ أخلاقية واستقلال للشخصية وحرية للإرادة .. وقدرة على الاختيار .. ومصوحبين بأمنياتنا الصادقة لهم بأن تكون رحلتهم في الحياة أكثر سعادة وأقل عناء من رحلتنا نحن .
أما أن نخيفهم من العالم الخارجي بدعوى أنه لا أحد يحبهم سوانا وأن نتحكم في حياتهم بحجة أننا نحبهم أكثر مما يحبون هم أنفسهم وأن نتخذ نيابة عنهم كل القرارات التي تخصهم ابتداء من لون الملابس إلى نوع الدراسة الجامعية فلا عائد لكل ذلك سوى أن نقدم للحياة شخصيات اعتمادية مترددة وخائفة ومتوجسة وفاشلة .. وليس تخرجك في دراستك الجامعية بعد 10 سنوات وتخرج شقيقتك بعد ست سنوات سوى دليل عملى بسيط على ذلك أن المرء مأمور بأن يكون بارا بأبوية حتى وإن جارا عليه أو جفواه أو ظلماه وبأن يرفق بهما ولو اشتدا عليه , لكن كل ذلك لا يتعارض مع حق الإنسان في أن يحتفظ لنفسه بشخصيته المستقلة وأن يتخذ لنفسه ما يراه في صالحها من قرارات وأن تتفتح مشاعره من قرارات وأن تتفتح مشاعره للآخرين وإلى جانبهما فيكون له أصدقاء وأهل وخلان دون أن ينقص ذلك من حبه لأبوية أو بره بهما.
ونصيحتي لك هي أن تنبه شقيقتك إلى خطأ نظرتها المكتسبة من أمها إلى الحياة والآخرين .. لأنها تحرم بها نفسها من حب الآخرين وتعاطفهم معها .. فمن يكره الناس يكرهونه .. ومن يتوجس منهم دائما لن يعرف السلام النفسي في حياته والإنسان الطبيعي لابد له أن يفترض في الآخرين حسن النية وصدق المشاعر إلى أن يثبت له عكس ذلك , وأن يكون قادرا على أن يمنح الآخرين ثقته وحبه لكي يستطيع أن يستقبل منهم عطاءهم المماثل .
وينبغي لك أيضا أن تنبهها إلى خطر الاعتماد الكامل على أمها في كل شئ حتى في اختيار فستان الخطبة، لأن ذلك سوف يهدد سعادتها مع زوجها ويعرضها للفشل فتدخل الأم في حياة الإبنة المتزوجة له حدود آمنه لا يجوز تخطيها وإلا تأثرت حياتها الزوجية تأثرا سلبيا.
وأنت تستطيع أن تجنبها الشقاء الزوجي بل والفشل أيضا إذا أقنعتها بضرورة أن يكون لتدخل الأم في شئونها بعد الزواج حدود مرعية حتى لا تواجه مأزق التمزق بين إرادة أمها وإرادة زوجها , وطاعة الزوجة لزوجها مقدمة على طاعتها لأمها وأبيها متى تزوجت دخلت بزواجها في رعايته حفاظا على روابط الأسرة.
كما أنك تستطيع من ناحية أخرى .. بل أنه من واجبك تجاه نفسك أن تكون لك شخصيتك المستقلة عن شخصية أمك بغير أن يتعارض ذلك مع رعايتك لها .. وسنة الحياة في النهاية أقوى دائما من كل ما يتعارض معها أو يحاول الوقوف أمام تيارها .. وسوف تفرض حركة الحياة على أمك أن تتنازل تدريجيا عن رغبتها القهرية في امتلاككما للأبد , وأن تتقبل شيئا فشيئا مبدأ مشاركة الآخرين لها في مشاعركما واهتماماتكم كما تقبلت من قبل مبدأ مشاركة خطيب شقيقتك لها في مشاعرها , لكن الأمر سوف يتطلب منك بعض الحكمة وبعض الحيلة .. وبعض الصلابة أيضا لكي تحيا حياتك الطبيعية كشاب له شخصيته وإرادته الحرة والتدرج في هذا الأمر مطلوب ومرغوب حفاظا على مشاعره وحرصا على ألا يثير خروجك الضروري من شرنقتها أوهام الجحود والنكران وضياع العمر بلا طائل في نفسها .. فحاول أن توسع تدريجيا وببطء مساحة استقلاليتك عنها وأن تقلل اعتمادك النفسي عليها شيئا فشيئا.
وكلما كسبت أرضا جديدة تريثت قليلا وضاعفت من حنانك بها ومحاولاتك لإرضائها وتعويضها نفسيا .. ثم واصلت الزحف البطئ إلى أن تحصل على "الاستقلال التام" وترفع علمك الخاص فوق حياتك بعد أن تكون والدتك قد تأهلت لذلك نفسيا .. وتقبلته .. بغير أن يؤثر ذلك على وفائك بواجباتك العاطفية والأسرية تجاهها .. فهذا هو السبيل الوحيد لأن تكون لك حياة خاصة وزواج سعيد ذات يوم وبغيره لن تخرج من إسار هذا الحب الفريد .. ولن تنجح في التواصل مع الحياة ولن تسعد بزواج ذات يوم , وإنما سوف تفشل أنت في حياتك الخاصة , وتلوم نفسها على مسئوليتها عن ذلك حين لا يجدي الندم .. أو حين تتحول مشاعرك لا إراديا عنها .. إذا استمر فشلك في حياتك الخاصة أو تكرر .. فتتهمها في عقلك الباطن بأنها المسئولة عن حرمانك من السعادة الشخصية والحياة الطبيعية ولا تجني أمك من حبها غير الرشيد لك في النهاية إلا أبشع الثمار .. وهو جمود مشاعر الابن أو ما هو أسوأ من ذلك .. وهذا ما لا أتمناه لها ولا لك .. وشكرا.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يونيو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر