الطلقات القاتلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا شاب جامعي عمري 36 سنة متزوج ولي طفل وحيد .. وقد وهبني الله زوجة صالحة وهدوءا وسكينة عائلية وفرحا بالابن والصديق وذكاء حادا خارقا والحمد لله .. لكن لي للأسف لسانا "زالفا" لا أستطيع التحكم فيه ولهذا فأنا سريع الكلام .. سريع الطلقات القاتلة مع علمي أن ذلك هو مفتاح كل الشرور والمفاسد , ولهذا فكثيرا ما تخرج كلماتي غير محسوبة , وربما قلت كلمة واحدة شاردة تكلفني عناء طويلا وسهر الليالي لإصلاح ما أفسدته بهذه الكلمة , ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أتدبر الكلمات قبل خروجها من فمي وكثيرا ما أعقد العزم على عدم الكلام فإذا بي أتكلم رغما عني وتخرج الكلمات من فمي بغير تدبر كالفؤوس فوق رؤوس الآخرين وتقع المشاكل وتتعقد الأزمات .. إلى جانب أنني لا أعرف النفاق مع أن الدين يبيح لنا المجاملة وعدم مصادمة الغير لكني لا أعرف ذلك للأسف , وقد أثر ذلك على حياتي بشكل كبير فبدأت أفقد الأصدقاء .. وبدأ الناس يتحاشوني خوفا من إحراجهم وجرح شعورهم وبدأت المشكلة تتضح في داخلي وتؤرقني ليل نهار..إنني أريد أن أقول خيرا .. أو فلأصمت .. فماذا أفعل ؟
ولكـــاتــب هـــذه الــرســـالـــة أقــــول :
من عرف الداء ..فلقد عرف الدواء .. وأنت تعرف الآن داءك وتقر به .. وفي علم النفس يقولون أن المريض النفسي يخطو أول خطوة على طريق العلاج حين يعترف لنفسه بأنه مريض وفي حاجه إلى العلاج .. إذن فلقد خطوت الخطوة الأولى الهامة وهي تحديد الداء والاعتراف به .. ويبقى بعد ذلك طلب الدواء .. ودواؤك يا صديقي هو أن تؤمن بحكمة أرسطو التي يقول فيها ليست الشجاعة هي أن تقول دائما كل ما تعتقد صحته , وإنما ألا تقول إلا ما تعتقد في صحته .. أي أن هناك دائما ما يقال وما لا يقال حتى ولو كان صحيحا وصائبا , مادام قوله ليس ضروريا ولا مطلوبا منك كشهادة حق ارضاء للضمير ولن ينصف مظلوما أو يرد حقا لصاحبة , ولن تكون له من عاقبه سوى الإساءة للآخرين وجرح مشاعرهم بلا مبرر , فمثل هذا الكلام السكوت عنه أفضل من البوح به حرصا على السلام العام .. وتجنبا للمشاكل مع الآخرين .. وتآلفا لقلوبهم .. فالحق إنه لا يدمي القلوب أحيانا مثل سهام اللسان الطائشة الجارحة , وفي كثير من الأحيان يصدق قول الشاعر :
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتئم ما جرح اللسان
فلماذا يستقطب الإنسان العاقل عداء الآخرين ضده بسبب قوارص كلام لا ضرورة له وما أسهل الإمتناع عنه ؟
لقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتألف قلوب المنافقين بالعطايا وحسن اللقاء وهو من لا يحتاج إلى إسترضاء أحد بل وتزوج بإبنة صاحبه عمر استرضاء له وشفاء لنفسه حين تأثر بإعراض اثنين من كبار الصحابة عن زواجها حين عرضها عليهما .. وكان سليمان الحكيم يقول : رابح النفوس حكيم .. والشاعر العظيم طاغور يقول : أبحث في الناس عن مزاياهم وأبحث في نفسك عن عيوبك تكن أحكم الناس .. فكيف يكون الحال بمن لا يستغني عن مودة الآخرين ويحتاج إليهم ؟
إن الإنسان الذي لا يسبق لسانه تدبره .. إنسان محكوم عليه بالوحدة والحرمان من مودة الآخرين وصفاء مشاعرهم .. فلماذا تحكم على نفسك بهذا المصير ؟
إن أول خطوة تستطيع انتهاجها لتخفيف معاناتك من نكبات اللسان هي أن تلتزم أولا بألا تتكلم كثيرا .. وأن تتذكر دائما أن لنا لسانا واحدا وأذنين اثنتين لكي نسمع أكثر مما نتكلم لأن من يتكلم كثيرا يخطئ غالبا كثيرا أيضا .
وأن تحاول "كما يفعل بعض من يعانون من هذه الآفة" أن تعد من واحد لعشرة في داخلك قبل أن تنطق بأية ملاحظة أو رأي أو تعليق يتضمن انتقادا للآخرين .. ثم تسأل نفسك قبل الكلام : هل لو قيلت لك هذه الملاحظة من أحد ستغضب لها وتثير حنقك عليه أم لا ؟ فإذا كان الجواب بنعم فأبلعها على الفور ولا تنطق بها لأن ما يغضبك يغضب الآخرين أيضا وبنفس الدرجة .
ثم حاول بعد ذلك ألا يتضمن حديثك دائما أي نقد للآخرين لأن النقد العقيم خاصة إذا لم يكن ضروريا يجرح مشاعر الآخرين وكرامتهم .. وإن كان ثمة ضرورة قصوى للنقد فحاول أن تسوقه في غلاف رقيق من الكياسة والرفق الذي يخفف من وطأته .. ولا يفقدك مودة من توجهه إليه.
والحق أنه حتى اللسان "المنفلت" المتمرد يمكن ترويضه وإلجامه بعقال اللياقة بالإرادة القوية .. والعزم الصادق .. والتدريب الجاد المتكرر على كبحه ومغالبة النفس وردها عن الانقياد لنزواته .. والتحكم في اللسان من سمات الشخصية القوية .. والانقياد وترك العنان له من سمات ضعف الإرادة .. والافتقار إلى الحكمة والذكاء الاجتماعي .. وأنت تصف نفسك يا صديقي بالذكاء الحاد الخارق فكيف فات ذلك على فطنتك ؟
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر