الحقيقة السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الحقيقة السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الحقيقة السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا فتاة في الثلاثين من عمري أسترجع شريط حياتي فأجده دائما زاخرا بالعناء والآلام , فبعد ولادتي بشهر أكتشفت أمي وجود صديد عندي في الأذنين , وتبين لها بعد فحص الطبيب وجود ثقب في طبلة الأذن اليمنى والأذن اليسرى , وأنه لا علاج لهما إلا بالنقط إلى أن أبلغ الثالثة عشرة من عمري ويتم ترقيعهما , تفتحت عيناي على صرخات الألم الشديد بسبب تلك النقط الحارقة التي كانت تلسعني كالنار , واستمررت في هذا العذاب حتى بلغت الثالثة عشرة وأجريت جراحة في أذني اليمنى وحدها وبقيت الأخرى بلا جراحة حتى الآن .. وواجهت بسبب ذلك صعوبة شديدة في التعليم، فكان مستوى تحصيلي دائما متوسط , وبعد الجراحة وآلامها لاحظت أمي معاناتي دائما من ارتفاع درجة حرارتي , وتبين أني في حاجة إلى جراحة لاستئصال اللوز , وذهبت لعيادة الطبيب , وانتظرت حتى خرجت مريضة كان يجري لها نفس الجراحة البسيطة ورأيتها تسير على قدميها بعد قليل , فعرفت أنها جراحة سهلة .. ودخلت إلى الطبيب وتم تخديري فإذا بي أروح في غيبوبة .. وأعاني من نزيف شديد تطلب نقل دم إلي .. وبقيت في المستشفي ثلاثة شهور كاملة .. وكنت منذ صغري فتاة بدينة حتى بلغ وزني 70 كيلو جراما , وأنا في الثالثة عشرة من عمري .. وشببت منذ صغري على سخرية الجميع مني وحرمت من أن ألبس ما أريد كما يفعل الأطفال لأنه لا يتناسب معي .. وحرمت من الجري لأني لم أكن أقدر عليه كثيرا مع هذه الأثقال التي أحملها في جسمي .. ولا أستطيع أن أصور لك معاناتي مما كان يحدث على الشاطئ إذا نزلت إلى البحر وأنا أرتدي المايوه كطفلة وكل من في البحر يضحكون ويسخرون مني .. وأبي يداري وجهه خجلا , ومع ذلك فلقد مضت السنون وتحملت السخرية حتى أصبحت شيئا عاديا في حياتي إلى أن بلغت سن العشرين , وعرفت أنها ليست كل ما في الحياة من متاعب .. فلقد اكتشفت أنه رغم بلوغي سن الشباب لم يحدث لي ما يحدث لكل فتاة منذ الثانية أو الثالثة عشرة من عمرها , واشتد القلق بأبي وأمي وطافا بي على الأطباء وتعرضت للفحوص والمعاناة مرة أخرى من جراحة فتح البطن إلى المنظار إلى الأشعة بأنواعها المختلفة , وتوقف كل ذلك فجأة وقال لي الطبيب أن ما أنتظره سوف يأتي عند الزواج , واقتنعت بذلك وقررت أن أنسى الأمر وأعيش حياتي كأي فتاة أخرى , ولكن التعليقات الساخرة على بدانتي أصبحت تؤلمني أكثر مما مضى , خاصة وأني أتمتع بطول يبلغ 180 سم وبحجم قدمين هائل حتى كرهت أن أنظر إلى نفسي في المرآة كما تفعل كل فتاة رغم أن وجهي جميل .. وبدأت أناضل لانقاص وزني ولجأت للرياضة وحبوب التخسيس فكان لها أثر سيئ على صحتي وأعصابي .. ومع ذلك لم ينقص وزني , بل تزايد ومازال يزيد .. فأصبحت اتجنب مغادرة البيت بكل وسيلة ..

ومضت السنوات بغير أن يتقدم أحد جاد للزواج مني , وكان كل من يعجب بي اكتشف فيه بعد قليل عدم جديته , أو رغبته في التسلية فقط .

 

وبلغت سن الثلاثين وأنا على هذا الحال .. فعرضت نفسي على طبيب للغدد الصماء لمساعدتي في أنقاص وزني ورويت له قصتي مع البدانة ومع النقص الآخر الذي أعانية كفتاة فطلب إجراء أشعة بالكمبيوتر على المخ وأشعة بالموجات الصوتية على البطن لمعرفة السبب , وأجريتها وعدت إليه بها وحدي , فأمسك بالأشعة الصوتية وراح ينظر إليها ويطيل النظر ويدقق ويقرأ التقرير المرفق معها ويعود للنظر إلى الأشعة .. ثم نظر إلي مترددا وقال لي أنه قد عرف أخيرا سبب ما أعانيه من نقص كفتاة , وهو أنني  مولودة بغير رحم ولا مبايض ! وأنها حالة نادرة لا تتكرر إلا مرة واحدة  في كل مليون طفلة , وانفجرت في البكاء بلا وعي , وأنا أرى حلمي كفتاة منذ طفولتي بالزواج والانجاب يتحول إلى سراب أمام عيني وبسبب عجيب لا ذنب لي فيه ولم يخطر لي ببال.

لقد قال الطبيب أنها حالة الواحد في المليون .. فلماذا شاء القدر أن أكون أنا هذا الواحد الذي يتعذب به .. وماذا جنيت من ذنب وأنا مجرد جنين في بطن أمي حتى يحرمني القدر من رحم المرأة وقدرتها على الانجاب.

لقد عدت إلى البيت منهارة وأنا لا أرى ملامح الطريق وأتساءل هل كان أبي وأمي يعرفان هذه الحقيقة السوداء عني منذ البداية أم لا ؟ وسألني أبي وأمي عما فعلت لدى الطبيب فأجبتهما بأنه لا "يعرف" شيئا في الطب ! .. لماذا ؟ أجبت لأنه قال لي أني مولودة بغير رحم ولا مبايض , وهذا خطأ بالطبع لأنه لا تولد فتاة بغيرهما, فتبادل أبي وأمي النظرات الصامتة ودمعت عيون أبي وأمي , واكتسى وجههما بالألم ثم تركني أبي وانصرف ونادى أمي إليه , وعادت أمي بعد قليل وأكدت لي صحة ما قاله الطبيب واعترفت لي بأنهما عرفا منذ سنوات طويلة وأخفياه عني حرصا على شعوري بعد أن أدركا أنهما لا حيلة لهما معه .. وانهرت مرة أخرى وبكيت طويلا , وأسودت الدنيا في وجهي حتى فكرت جديا في الانتحار , لكني تراجعت عنه حين أصيب أبي بأزمة قلبية بعد ذلك , فأشفقت من أن أضيف إلى آلامه آلاما جديدة , ورضيت بما اختارته لي الأقدار , أو على الأصح تظاهرت بالرضا لأني في الحقيقة لست راضية ولا سعيدة , وأتساءل لماذا أكون أنا هذا الواحد في المليون , وأعيش حياتي وحيدة بلا زوج ولا أولاد , ومن ذا الذي سيرضى بفتاة عاقر طويلة بدينة ضخمة القدمين ليشاركها حياته ؟

لقد نصحتني أمي بألا أصارح من يتقدم لي بمأساتي الخاصة , لكني رفضت ذلك , وتقدم لي مهندس .. ففوجئت به يقول لي في أول لقاء أنه يرغب في الاستقرار وانجاب 4 أطفال , فأجبته على الفور : أنني لن أستطيع أن أنجب حتى صرصارا , وتصور أنني أمزح معه , لكني صارحته بالحقيقة السوداء .. فتركني وانصرف صامتا .. وبكيت في مكاني حتى جفت دموعي .. لقد كرهت الدنيا .. وأحس بظلم الحياة والمجتمع لي , وأشعر بالحقد على المتزوجات والمخطوبات , وأصبحت أسخر من كل شئ .. وأريد حلا لمأساتي لكني أرجوك ألا تقول لي أن الزواج ليس كل شئ في الحياة .. لأننا في مجتمع شرقي يظلم الفتاة غير المتزوجة , فبماذا تنصحني وأعدك بأني سألتزم بما تقوله لي لأني مؤمنه بك وبرسالتك.

 جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com


ولكـــاتـــبه هـــذه الــرســـالـــة أقـــول :

 

هناك دائما رجل مناسب لكل فتاة مهما كانت ظروفها الخاصة , وفتاة ملائمة لكل رجل مهما كانت ظروفه , وكلاهما يبحث عن الآخر ليجد فيه ضالته حين يلتقي به .. وسوف يرى فيما يعتبره الطرف الآخر نقصا فيه أهم ما يرشحه للارتباط به.

وبالنسبة لحالتك فما أكثر من يحتاجون إلى فتاة شاءت لها الأقدار ألا تنجب مثلك إما لعدم رغبتهم في الإنجاب أو لعجزهم عنه .. لكن الإنسان مطالب دائما بأن يتكيف مع واقعة ويستبصر حقيقة ظروفه .. ويتعامل بمرونة مع ما تفرضه عليه الظروف أحيانا من بعض التنازل عما كان يحلم به لنفسه ويتمناه .. وكلما كانت مطالبه من الحياة هينة كان إدراكها أيسر وأسرع.

وبداية تكيف الإنسان مع واقعه .. هي أن يتقبل ما لا يمكن تغييره من حتميات عديدة في الحياة لخصائصه الجسيمة لأن تضجره الدائم منها لن يؤدي إلى تعديلها أو تغييرها , ولن يثمر إلا المعاناة .. وفساد الروح .. وتشاؤم نظرته للحياة والآخرين.

والتسليم بهذه الحقيقة البديهية من حقائق الصحة النفسية يسهل للمرء ليس فقط تحمل أقداره والرضا بها .. وإنما أيضا تواصله مع الحياة واندماجه فيه , ويزيد من فرصه للتخلص من عزلته .. لأنه يعينه على الإيمان بأنه لا يد له فيما يعاني من نقص .. ولا ذنب للآخرين فيه .. إذن فلا لوم عليه ولا على الآخرين , ولا فضل لأحد فيما وُهب , ولا جريرة على أحد فيما حُرم منه , وهذه هي أهمية الرضا الحقيقي وليس الظاهري بما جرت به المقادير , وهو أنه يدعم إيمان المرء بربه ونفسه وبالحياة وبالأمل في أن ينال نصيبه العادل من السعادة حين يشاء رب العاملين , وهذا ما يعبر عنه بعض العارفين حين يقولون : إن الرضا هو "تلقي المصائب بالرجاء" أي بالأمل في أن يخفف الله وقعها على المرء ويعوضه عما عاناه فيها من آلام , ويستتبع ذلك بالضرورة أن نعفي الآخرين من الكراهية لمجرد أن الحياة قد حرمتنا مما وهبتهم ونحن في النهاية نستمد العون من صداقة الآخرين ونستعين بها على حياتنا في شئون كثيرة , وليس من العدل أن نتعامل معهم ونستفيد منهم ونحن ننطوي على حقد عليهم لمجرد أننا حرمنا مما لم يحرموا منه.

ولهذا فلابد في البداية من التسليم بما جرى والرضا به والصفح عن الحياة والآخرين , وإعفائهم من الحساب على شئ لم يجنوه عليك .. ثم أبدئي بعد ذلك باستنفار أرادتك لتخفيض وزنك , وهو أمر ليس محالا لأصحاب الإرادة القوية .. ولتحقيق أهداف صغيرة أخرى في حياتك تنشغلين بها عن ظروفك كأن تعملي وتمارسي أي نشاط اجتماعي مفيد .. أو تزيدي من قدراتك بتعلم لغة أو مهارات مفيدة أو هوايات جديدة , وثقي من أن وجهك سوف يزداد جمالا وتألقا حين تصفو نفسك مما كانت تحمله للآخرين , وحين تستعيدين إيمانك بنفسك وبكل القيم وبجمال الحياة , وبواجبنا في أن نحياها ونسعد بها رغم كل ما فيها من آلام. وسوف يفتح لك ذلك أبوابا كانت مغلقة من قبل في حياتك لأن جمال النفوس ينعكس بالضرورة على جمال الوجوه ويكسوها صفاء وقبولا لدى الآخرين , ولأن الناس يتعاشرون بالمودة والخلق الطيب والتسامح ولين الطباع .. وليس بكمال الأجسام أو اكتمالها .. والإنسان قادر دائما يا آنستي على أن يتعايش مع ما ينقصه من رغائب في الحياة وعلى أن يعوضها ببدائل ومباهج أخرى عديدة في الحياة , وحرمانك من القدرة على الانجاب ليس في النهاية وقفا عليك وحدك لأن صحيحات الجسم قد لا ينجبن .. ومن تنجب قد لا تسعد بمن أنجبت , وربما شقيت به أضعاف شقائك بالحرمان من الانجاب , وكثيرون يعوضون الحرمان من الانجاب بحب كل أطفال الدنيا أو أطفال الأهل الأقربين أو رعاية طفل محروم , ونقصك بهذا المفهوم ليس بدعة بين النساء , لكنه قدر محتوم واختبار لإيمانك .. فهل تصمدين له كما صمدت لآلام حياتك الماضية إلى أن تفوزي بجوائز الصابرين ؟ أرجو ذلك وشكرا.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات