الحلم القديم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا رجل أبلغ من العمر أربعين
عاما , تزوجت منذ 15 عاما من إنسانه تعرفت عليها في محل أبي "رحمه الله"وعشنا
حياة عادية , وحملت زوجتي بعد شهور وسعدنا بحملها كأي زوجين يتمنيان الإنجاب ,
لكني فوجئت عند الولادة في المستشفى بوفاة المولود , وعرفت من الأطباء لأول مرة أن
زوجتي مريضة بالسكر , واكتشفت أنها لم تصارحني هي وأهلها بحقيقة مرضها قبل الزواج
وعانيت نفسيا من جراء ذلك بعض الوقت ليس بسبب مرضها , لأنه من أمر الله , وإنما
بسبب عدم مصارحتهم لي به , وكان بيني وبين زوجتي حاجز نفسي حتى هممت بطلاقها , لكن
أبي الرجل الصالح الذي يعرف ربه جيدا حال بيني وبين ذلك ورفض فكرة الطلاق نهائيا
لأن زوجتي يتيمة الأبوين ولا تعمل ولا تحمل شهادة ولا مورد لها , واستجبت لرغبته وطردت
فكرة الطلاق من ذهني وساعدني على ذلك أنها إنسانه طيبة حقا وزوجة صالحة بكل معنى
الكلمة .. وقد أرادت "كما قالت لي" أن تصارحني في بداية الزواج بمرضها ,
لكن أهلها عارضوها في ذلك وعملت بمشورتهم لأنها أحبتني بشدة وخشيت أن تفقدني.
وتجاوزت هذه الأزمة وحملت زوجتي
للمرة الثانية ولا أريد أن أتذكر ما عانيناه من متاعب صحية ونفسية خلال متابعة
الحمل وحتى الولادة .. ثم جاءت اللحظة الحاسمة وذهبت زوجتي مع أخوتها إلى المستشفى
لتضع مولودها الثاني , وذهبت إليها لأطمئن عليها ففوجئت بأنها قد تركت المستشفى
قبل وصولي وهي في حالة مؤلمة بعد أن نزل الجنين ميتا أيضا. وعدت إلى البيت حزينا
لتتضاعف أحزاني بوفاة أبي الرجل الطيب , فازددت أكتئابا , واستسلمت لقضاء ربي وقدره
, وصرفت النظر عن موضوع الإنجاب نهائيا , وعشت حياتي مع زوجتي بطريقة طبيعية ..
أعمل وأرعى شئون بيتي لكني بدأت أميل إلى العزلة وإلى الزهد في أشياء كثيرة في
الحياة , ولاحظت زوجتي ذلك فجازفت بحياتها للمرة الثالثة رغم تحذير الأطباء لها ,
وحملت من جديد أملا في إسعادي , وتجدد بحلمها الثالث الحلم .. والأمل .. والألم أيضا
وانتهت المعاناة للأسف نفس النهاية السابقة , وتوفي الطفل الثالث أيضا عقب ولادته
مباشرة , وبعده قررت ألا أسمح لها بتكرار هذه المأساة مرة أخرى , وعشنا حياتنا كما
ارادتها لنا الأقدار ومضت ست سنوات على ذلك وزوجتي لا تقصر في رعايتي وأحاطتني
بحبها وحنانها.
ثم منذ حوالى عام بدأت ألاحظ
على نفسي أنني قد أصبحت غير راغب في العمل , وأنني يائس من كل شئ وأعصابي شبه
منهارة .. ولاحظ إخوتي ذلك علي أيضا , فاقترحوا علي كمحاولة لإخراجي من هذه الحالة
أن أطلق زوجتي وأتزوج مرة ثانية , لكن ذلك إن حدث سوف يعني إصدار حكم بالاعدام على
زوجتي التي لا تعمل ولا مورد لها , والمريضة التي تحتاج إلى نفقات مستمرة للعلاج ,
ومن ناحية أخرى فإنني لا أملك الامكانيات المادية التي تتيح لي أن أحتفظ بها وأتزوج
من أخرى لاستحالة توفير مسكن آخر في هذه
الظروف التي يعاني منها الجميع.
ولقد عجزت عن التفكير واتخاذ
قرار صائب في أمري .. فهل تنصحني بأن أطلق زوجتي وأعطيها حقوقها كاملة , ثم أتزوج
من أخرى كما يشير علي إخوتي بذلك .. وهل يعاقبني الله إن فعلت ذلك بها مع أنه من
حقي شرعا .. أم تراك تنصحني بأن أستسلم لقدري وأرضى بحياتي كما هي وأصرف النظر عن
هذا الأمر.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
ولـكــــاتـــب هـــذه الـــرســالــة أقـــول :
يندر أن يستشعر الإنسان السعادة
الحقيقية في حياته إذا كان مؤرق الضمير بما أذى به آخرين من البشر لم يقدموا له
سوى الحب والإخلاص والوفاء .. ولا شك أنه من حقك شرعا أن تتزوج من أخرى لتحقيق أمل
الانجاب , ولست أظن أن زوجتك سوف تعترض طريقك إليه إذا كان هذا هو المخرج الوحيد
لك من اكتئابك وعزلتك .. لكنك من ناحية أخرى لا تملك الامكانيات المادية التي تتيح
لك تحقيق هذا الحلم بأقل قدر ممكن من الأذى النفسي والمادي لزوجتك , ولا سبيل لك
إليه إلا بالتضحية نهائيا بها وتشريدها وهي يتيمة الأبوين التي لا عائل لها سواك
ولا عمل , والزوجة التي تفانت في حبك ورعايتك وخاطرت بحياتها أكثر من مرة حرصا
عليك وتمسكا بك .
وأصحاب القلوب الكبيرة يا صديقي
هم من لا يكتفون بتحري العدل في علاقاتهم بالآخرين , وإنما يضيفون إليه فضلا منهم
وكرما والرفق بهم.
وزواجك من أخرى للإنجاب أمر
مشروع وان كنت من أنصار قبول كل إنسان ببعض نواقص حياته القدرية لأنه هيهات أن تجتمع
لأحد كل أسباب السعادة والنعيم كاملة غير منقوصة, لكنه حتى هذا الأمر المشروع فإن
تحقيقه غير متاح لك بغير الإقدام على ما تعترف أنت بأنه سيكون بمثابة حكم بالاعدام
الأدبي والاجتماعي على زوجتك المحبة المتفانية في ارضائك , وبذلك فهو أمر يخلو من
الرحمة وإن كان مشروعا.
فكن من أصحاب القلوب الكبيرة يا سيدي , وأرض
بحياتك كما ارادتها لك الأقدار , ولا تجر وراء مجهول لا تعرف ماذا سوف يحمل إليك
من سعادة أو شقاء .. وتأكد من أن ما تعانيه من اكتئاب الآن ليس سوى نتيجة طبيعية
لتمزقك النفسي بين تطلعاتك الخفية لتغيير حياتك والتعلق بأمل الانجاب , وبين عمق
ادراكك لما سوف يعنيه طلاقك لزوجتك من شقاء لها وتحطيم لحياتها , مما يؤكد أنك من
أصحاب الضمائر الحية الذين لا يستطيعون الاستمتاع بالحياة على حساب شقاء الآخرين.
والحل في تقديري هو أن تعفي
نفسك من هذا التمزق بين تطلعك إلى حياة جديدة وبين الواقع الخاص الذي يحول دون
تحقيق الأحلام , وذلك بالرضا بحياتك كما هي والتواؤم معها , واستشعار أهمية الكثير
من جوانبها بما يحقق لك أن تسعد به وترضى عنه في مقابل ما تستشعره من نقص فيها ..
وحين تفعل ذلك بالحوار المنطقي مع النفس سوف تسترد رغبتك في العمل .. وتتفتح
للحياة من جديد .. وتستعيد آمالك فيها .. فالرضا دائما هو سر السعادة والوفاق
النفسي .. والتطلع المؤرق إلى ما لم تتحه لنا الحياة هو أعدى أعداء سلام الإنسان
مع نفسه ومع الآخرين .. وقديما جاء في الحديث القدسي ما معناه :
"من
لم يرض بقضائي .. فليختر ربا سواي"
مع تمنياتي لك بالسعادة
الحقيقية المبرأة دائما .. من وخز الضمير !
رابط رسالة الأمل من طبيب فاضل معقبا على هذه الرسالة
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابرايل
1993
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر