حافة الهاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

حافة الهاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


حافة الهاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا شاب عمري ثلاثين سنة أعيش مع أمي وأبي وأخي الأصغر في مدينة ساحلية .. أنهيت دراستي المتوسطة منذ عدة سنوات وأديت الخدمة العسكرية , ثم التحقت بالعمل بإحدى الشركات الاستثمارية , وكأي شاب كانت لي أحلام في السعادة فأرتبطت بأكثر من فتاة على أمل أن أتزوجها , وفي كل مرة كان ارتباطي ينتهي بالفشل لسبب واحد هو أمي ! .. ففي كل مرة كانت أمي التي تحبني إلى حد الجنون تتسبب في إفساد علاقتي بالفتاة التي ارتبطت بها وبأهلها , حتى يئست من أن أنجح في إتمام  مشروع للزواج فأحجمت لمدة 3 سنوات عن محاولة الإرتباط بأي فتاة خوفا من تكرار التجربة , ثم التقيت في الصيف الماضي بفتاة قاهرية جميلة جاءت لقضاء إجازة الصيف في مدينتي الساحلية فوجدت فيها فتاة أحلامي وأحببتها من كل قلبي وتعرفت بأهلها وأحببتهم ولمست فيهم الطيبة , فصارحتهم من البداية بأن أمي تحبني حبا مدمرا كحب القطة لأولادها الصغار , وأنها تتصور أني سأضيع منها إذا تزوجت ولهذا فهي لا تتوانى عن محاولة إفساد أي مشروع ارتباط لي .. وتفهم أهل فتاتي ذلك تماما .. ثم بدأت رحلة العذاب مع أمي فعرضت عليها الأمر ووجدتها ترفضه بلا تردد وبدون أن ترى الفتاة أو أهلها , وكررت المحاولة معها مرارا وتكرارا دون جدوى , ففاتحت أبي فرحب بالمشروع ووجدته يشجعني عليه ويعلن موافقته , فذهبت إلى أهل فتاتي وأبلغتهم بموافقة أبي وباعتزامه أن يحضر معي الخطبة أما أمي فلا أمل كالعادة , لأنها ضد زواجي من البداية , وتفهم أهل فتاتي الموقف وقبلوا به , واقترب موعد الخطبة في القاهرة .. وفي كل يوم يحاول أبي اقناع أمي بألا تخذلني في هذه المناسبة , خاصة أن الخطبة سوف تتم سواء حضرت أم غابت , وأمي تتمسك بالرفض ثم أخيرا وبعد عذاب طويل أعلنت موافقتها على خطبتي , وحضرت معنا الخطبة بالفعل في القاهرة , وعدت لمدينتي سعيدا وقد انتهت أعقد مشاكل حياتي .. فأمي راضية .. وأنا سعيد بفتاتي .. وفتاتي سعيدة بي , وقد صارحتها بكل شئ عن حياتي قبل أن ألتقي بها.

 

ومضت أسابيع ففوجئت بأمي تدعو أسرة فتاتي لقضاء يومين في مدينتنا وجاءت فتاتي وأمها وشقيقها الأكبر .. ولا أدري لماذا لم أشعر بالارتياح لخبر الدعوة مع أنه من المفروض أن أسعد برغبة أمي في مجاملة أسرة فتاتي ولم يمض وقت طويل حتى عرفت سر انقباضي الغامض , فقد وجدت أمي أقرب الناس إلى تشوه صورتي أمام أسرة خطيبتي وتقول لهم أنني خطبت قبلها .. وأنني على علاقة بفتيات كثيرات وأنني أتلقى تليفونات من فتيات !! هل تصدق ذلك يا سيدي .. لقد صارحت خطيبتي بخطيباتي السابقات وبالكثير جدا عن حياتي قبل أن أعرفها .. لكن لكل إنسان بعد ذلك خصوصيات لا يحب البوح بها لأي إنسان حتى لا يتعرى تماما أمامه فإذا بأمي الحبيبة تسقط عني أمام أسرة فتاتي وأمام خطيبتي كل الأستار وتعرضني عليهم عاريا تماما بغير أن تستر أى شئ مني.

لقد انهرت حين علمت ذلك من فتاتي .. وأقسمت لها أنها الوحيدة في حياتي الآن وأنني مزقت كل الخيوط القديمة .. أما أم خطيبتي فهي سيدة تفهم الحياة جيدا وقد أدركت ما تهدف إليه أمي من ذلك فأجابتها بأننا لا يهمنا الماضي في شئ وبأننا نرى ابنك الآن خير الرجال ونحن نحبه ونريده بحاله وما عليه وسوف نساعده بكل ما نملك لكي يسرع بإتمام الزواج .. وحتى الشقة سوف نساعده في توفيرها !

ومع ذلك فقد راحت أمي تصارع بكل وسيلة لافشال خطبتي هذه وحين أعيتها كل الحيل في أن تفسد بيني وبين أسرة خطيبتي , أظهرت الضيق بوجود الأسرة عندنا مع أنهم ضيوفها هي شخصيا وادعت المرض لكي يرحلوا عنا !

ولقد رأيت كل ذلك ولمسته وتعذبت به وأنا صامت ومقهور ومذهول لأني أرى الطعنة تأتيني من أعز الناس وأقربهم إلي وأرى أن من يدافع عني هو أسرة فتاتي .. وقد اعتصمت بالصمت خوفا من اغضاب أمي لأنها مريضة بالقلب .. وخوفا من أن أسخطها علي فأفقد رضاها عني وأعيش في عذاب طوال حياتي.

ثم سافرت أسرة فتاتي من مدينتنا .. وبدأ الصراع المكشوف هذه المرة .. فأمي ترفض خطيبتي وأسرتها رفضا باتا .. وأنا لم أعد قادرا على أن أطيعها في هذا الأمر وأترك خطيبتي هذه وأسرتها الكريمة التي تحملت من أجلي الإهانة في بيتنا وتمسكوا بي ورفضوا التخلي عني رغما عن ذلك .. فهل لك يا سيدي أن توجه كلمة لوالدتي التي تقرأ لك , تطلب فيها منها أن ترحمني من هذا العذاب .. وأن تخاف علي وتراعي شعوري كما أخاف عليها وأراعي شعورها , وبأن تقتنع بأني سوف أتزوج ذات يوم وأرحل عنها مهما فعلت , وأنني أحبها وأريد رضاءها عني ولا يمكنني أن أستغني عنها مهما حدث وأن ذلك لا يتعارض أبدا مع أنني أحب خطيبتي هذه وأحب أسرتها , وأني قد ارتبطت بهم ارتباطا نهائيا بل أني لا أعرف كيف أشكرهم وأعتذر لهم عما تحملوه من أجلي .

هل يمكن أن تتوسط بيني وبين أمي العزيزة الغالية ؟!

 

ولــكـــاتــب هـــذه الــرســـالـــة أقــــول:

 

أسوأ ما يفعله بعض الآباء والأمهات هو أن يضعوا أبناءهم الراشدين الراغبين بصدق في ألا يخرجوا عن طاعتهم , أمام اختيار نهائي : بين رضا الأبوين من ناحية وبين هوى القلب أو مشروع الارتباط من ناحية أخرى .. ذلك أن دفع الأمور إلى حد التخيير بين الأب والأم , وبين خطيبة الابن أو خطيب الابنة , هو أمر مرفوض من البداية , ولا يجوز لأب عاقل أو أم رشيدة أن تدفع علاقتها مع ابنها إلى هذه الحافة الخطيرة .. فعلاقة الابنة أو الابن بأبوية فوق كل مقارنة .. وفوق كل اختيار .. والأب الرشيد هو الذي يعرف متى يتوقف في ضغطه على ابنه لكي يعدل عن مشروع ارتباط لا يوافق هو عليه , عند الحد الذي تصبح معه أي حركة زائدة نذيرا بسقوط الصخرة في الهاوية .. وقطع شعرة الطاعة والولاء التي تجمعه به .

والأبوان قادران دائما على أن يعينا الأبناء على عدم الخروج على طاعتهما أو هتك العذار معهما بتجنب دفع الامور إلى هذه الحافة التي ليس بعدها سوى هاوية العقوق وتحدي إرادة الأبوين .. ونحن في النهاية كآباء وأمهات لا نملك للأبناء الراشدين المسئولين عن أنفسهم شرعا وقانونا إلا النصيحة .. ومن واجبنا ألا نقصر في نصحهم وألا نمل من محاولة تحذيرهم وإقناعهم بما نراه في صالحهم .. ومن واجبهم ألا يصموا آذانهم عن نصحنا ورغبتنا المخلصة في تجنيبهم التعاسة والشقاء بما نراه نحن بخبرة السنين مما قد يخفى على عين المحب التي لا ترى فيمن يحب إلا كل شئ جميل .. ولهم بعد كل ذلك أن يختارو حياتهم وفقا لإرادتهم وأن يخوضوا تجربتهم ويتحملوا نتائجها .. وسواء صدقت نظراتنا نحن أم صدق حسهم هم , فنحن معهم في كل الأحوال نسعد بسعادتهم إن سعدوا .. ونشد أزرهم ونعينهم على تقليل خسائرهم وإصلاح الأخطاء .. إن جانبهم التوفيق في حياتهم .. وهذا هو دورنا وواجبنا تجاه أبنائنا سواء رضينا عن اختيارهم لشركاء حياتهم أم لم نرض.

 أما الرفض القاطع الباتر لما لا نوافق عليه نحن من وجهة نظرنا ثم التحجر على هذا الموقف حتى النهاية وبلا أي مرونة وإلى الحد الذي تصبح معه الوسيلة الوحيدة لارتباط الأبناء بمن يحبون ويرغبون هو الخروج على طاعتنا وتحدي إرادتنا فليس من الحكمة في شئ ولا من الرفق بأبنائنا وبأنفسنا قبلهم في شئ .

فالتجربة هي تجربتهم هم وليست تجربتنا ولا حياتنا في البداية والنهاية .. وليس علينا إلا البلاغ  .. وكل ما قلته هنا ينسحب على موقف السيدة والدتك وعلى كل أم وأب يضع أبناءه أمام هذا الاختيار المرفوض .. وأضيف إليه في حالتك أنه ليس من اللائق فعلا مهما كان رأيها في اختيارك أن تسئ إليك لدى أسرة خطيبتك ولا أن تتحايل على إفساد هذه الخطبة مهما كانت مبرراتها ما دام أبوك قد بارك اختيارك بما يعني أنه ليست هناك اعتراضات موضوعية على الاختيار , ناهيك عن الارتباط العاطفي الذي يجمعك بفتاتك .. كما أرجوها أن ترفق بنفسها وبصحتها وبأن تسلم مع العقلاء بأن من حق أبنائنا أن تكون لهم حياتهم الخاصة المستقلة عنا وبأن هذه الحياة لا تتعارض مع حبهم لنا ولا ارتباطهم بنا , ولا حاجتنا العاطفية إليهم.

 فالعاقل هو من يقبل حقائق الحياة ويتكيف معها .. وهو أيضا من يعرف أن الحب السوي للأبناء لا يعوق استقلالهم بحياتهم ولا توجههم بمشاعرهم الطبيعية إلى الجنس الآخر.. وأن الحب الأناني .. لا يعين الأبناء على تشكيل شخصياتهم المستقلة وعلى نيل حظهم العادل من السعادة .. بل ومن حق التجربة والخطأ أيضا كما أنه في النهاية لا يترجم عاطفة الأمومة السليمة تجاه الأبناء بقدر ما يترجم أحيانا غريزة حب التملك .. والانفراد .. والعناد !!

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات