الهدوء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الهدوء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


الهدوء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا شاب أبلغ من العمر 37 سنة ومتزوج وعندي ثلاثة أطفال أكبرهم عمره 9 سنوات ولي ثلاثة أخوة وأخت متزوجة من رجل فاضل لكن الله لم يرزقها بأطفال .. ومنذ 10 سنوات اقترحت عليها وعلى زوجها أن أتزوج وأقيم معهما في الشقة لأنها واسعة على أن أدفع نصف التكاليف .. فأنا أكسب ما يكفيني وأعمل بائعا بمحل بقالة .. فوافقا وأقمت معهما وتزوجت وأنجبت وعشنا معا 9 سنوات سعيدة .

ثم عدت ذات يوم من عملي فطلبت مني أختي أن أغادر البيت خلال ثلاثة أيام وأبحث لأسرتي عن مأوى آخر ودارت بي الأرض وتساءلت عن السبب فأجابتني بأن أطفالي قد كبروا وأصبحوا مزعجين لزوجها الذي يريد الهدوء , ولم أعرف ماذا أفعل فلجأت إلى أخي الأكبر المتزوج استشيرة فاقترح أن أذهب بأسرتي إلى بيت الأسرة الذي يعيش فيه أبي وأمي وأخ لي يرفض الزواج رغم أن رزقه موفور .. أما أخي الثالث فهو مسافر للخارج , فذهبت بأسرتي إلى بيت أبي وأمي فقابلاني بترحيب لكن شقيقي العزب قابلني بفتور شديد , ومنذ اليوم الأول بدأ محاربتي أنا وأولادي بحجة "الهدوء" مع إني كنت أحبس أطفالي في غرفتهم من الثامنة مساء إلى اليوم التالي , ثم عدت للبيت بعد شهر فوجدت "موقعة حربية" بين أخي الأكبر وأخي الأصغر بسببي فذهبت بأسرتي إلى حماتي وأقمت عندها جزاها الله عني خيرا واحتويت الأزمة لأن الأولاد كانوا على مشارف دخول المدارس لكن لم يمض أسبوع حتى وجدت نفسي في الشارع مرة أخرى فذهبت إلى لوكاندة شعبية رخيصة فلم تتحمل زوجتي ولا أولادي الإقامة بها.

وعدت لحماتي فقالت لي بصراحة أنها ترغب في وجودنا معها , لكن أولادي كثيرون وفي سن متقاربة والشقة ضيقة، وهي تريد الهدوء في حياتها , فعدت بعد أيام مرة أخرى إلى اللوكاندة .. وبحثت عن غرفة في مدينة خارج القاهرة فطلب صاحبها مبلغا لا يتوافر لي فذهبت إلى اخوتي فلم أجد مساعدة منهم فذهبت إلى صاحب العمل الذي أعمل معه منذ 5 سنوات فرفض إعطائي المبلغ وتقسيطه علي فتركت العمل وعملت بمحل آخر ونشرت إعلانا في الصحف عن بواب بأسرته يعمل حارسا وخفيرا وزوجته تعمل دادة لأي أسرة تملك عمارة أو فيللا مقابل الإيواء والمعيشة ولم يتصل بي أحد .. فهل أجد من يحتاج إلى أسرة كأسرتي علما بأن صحتي جيدة وقادرة على عمل البواب والحراسة وزوجتي قادرة على العمل .. وما هذا الهدوء الذي يشرد أسرة لا ذنب لها إلا أن عائلها عاجز عن توفير مسكن لها مثلي ؟

 

ولـكــاتــب هــذه الــرســالــة أقـــول:

 

لابد أن هناك من يحتاج إلى خدماتك كحارس مقابل غرفة الإيواء المخصصة له .. لكن المؤسف حقا هو ألا يتعاون معك اخوتك ومنهم من هو مقيم بالخارج في تدبير مئوى متواضع لك حتى في مدينة قريبة من القاهرة , ولو بإقراضك المبلغ وتقسيطه عليك , أما عن "الهدوء" الذي تتساءل عنه فلا لوم على أحد في أن يطلب راحته في بيته , لكن اللوم فقط على من لم ينذرك بالانتقال من بيته قبل الإخلاء بوقت كاف .. وعلى من لم يساعدك على أمرك بما في يده إذا كان قادرا على المساعدة وفيما عدا ذلك فإن أسرة من أبوين وثلاثة أطفال صغار في سن متقاربة عبء ثقيل حقا حتى على ذوي الأرحام إذا لم تكن الضيافة قصيرة أو لمدة محددة معروف بدايتها ونهايتها , فالبيوت لا تتسع إلا لأصحابها فإن اتسعت لغيرهم لظرف طارئ فلابد أن يكون ذلك لفترة مؤقتة يدبر أصحاب الشأن أمرهم خلالها .. أما الإقامة المفتوحة بلا أي تخطيط للمستقبل أو تحرك جاد لحل المشكلة فليس مما يحتمله أحد .. فليس الهدوء وحده هو ما يطلبه البشر .. وإنما الخصوصية أيضا , فاتصل بي مساء يوم الاثنين القادم لعل الله يهيئ لك من أزمتك مخرجا.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات