نافذة على البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

نافذة على البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


نافذة على البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


 منذ سنوات وأنا أفكر في الكتابة إليك , فلقد كنت خلال فترة عملي بإحدى الدول العربية أحرص على ألا تفوتني صفحتك كل جمعة , وأتنسم فيها رائحة بلدي وأهلها , ولن أطيل عليك فلقد نشأت في أسرة بسيطة فقيرة , وكافحت كأي شاب لأتعلم بعد أن تخلى عني الأهل والأقارب ولم يساندني أحد في أزماتي سوى أمي رحمها الله , فلقد كانت رغم ضعف إمكاناتها تشاركني همومي , وتواسيني بما في يدها من امكانات قليلة , ثم تخرجت وعملت , وعوضت أمي كثيرا من حرمانها ومعاناتها وتكفلت بكل نفقات البيت وأرضيت بذلك ربي وضميري , ثم سافرت للعمل بدولة عربية وتزوجت من مصرية تعمل هناك , ولم أنس أسرتي وإنما زاد اهتمامي بها , وكنت أرسل لها مبلغا شهريا , وهدايا مالية إضافية في الأعياد ليواصل إخوتي رحلتهم في الحياة وأطرب لدعاء أمي لي بالستر في الدنيا والآخرة .. ثم تخرج إخوتي وسافروا للعمل في الخارج , وتحسنت أحوالهم وأحوال الأسرة والحمد لله .. وخلال ذلك كنت قد أنجبت طفلة جميلة وبدأت أفكر في مواصلة طموحي العلمي، فتركت زوجتي في رعاية أسرتها التي تقيم معنا في نفس البلد وسافرت إلى أمريكا , وحصلت على الماجستير والدكتوراه خلال عدد محدود من السنوات ثم عدت للعمل بالدول العربية , وخلال سفري للدراسة تنكرت زوجتي لي نهائيا , وتحولت إلى إنسانة أخرى , وبعد عودتي ثارت مشاكل لم يكن لها حل سوى الطلاق الذي لا يختلف اثنان على أن زوجتي هي المسئولة عنه إذا ما رويت التفاصيل والأسباب .. ورغم ذلك فلقد كنت ومازلت أراها سيدة فاضلة , لكن لعنة الله على شيطان الخلاف , ولهذا أنهيت كل شئوني ومتعلقاتي معها بالحسنى وشهد لي أهلها بذلك وانفصلنا في هدوء , وقمت بواجبي تجاه ابنتي وسوف أقوم به للنهاية وتركتها تعيش مع أمها للآن.

 

وانطوت بذلك صفحة زواجي , ثم توفي أبي وأمي رحمهما الله فأصبحت أعيش وحيدا تماما مع غياب إخوتي بالخارج وعودتي أنا للعمل في مصر .. وبفضل كفاحي فقد مّن الله سبحانه وتعالى علي بالمال والحمد لله، فأصبحت أقضي الصيف كل سنة خارج مصر , وأنا أكتب لك هذه الرسالة الآن من فندق صغير أرى البحر من نافذته , وقد مضى على سفري أكثر من شهر ولا أريد العودة رغم أنه لا عمل لي هنا .. ولا أصدقاء .. ولا اهتمامات إذ لمن أعود ؟ إلى وحدتي في شقتي ؟ أم إلى الأقارب الذين قد تمضي الشهور بغير أن يطرقوا علي باب الشقة إلا إذا كانت لهم مصلحة أو طلب ؟ أم إلى جيران معظمهم يحقدون عليك لأنك أكثر مالا أو علما أو جاها ؟!  .. إن أقسى شهور السنة علي هو شهر رمضان المعظم الذي يبتهج الجميع لقدومه .. وأتعس أوقاتي فيه حين أجلس وحيدا إلى مائدة الإفطار أو مائدة السحور أتناول طعامي صامتا في شقتي الخالية وشقق العائلات في كل مكان تضج بالحركة والبهجة في هذا الشهر الكريم.

سوف تسألني .. ولماذا لا تتزوج ؟ .. وسأجيبك بأنني لا أحب فتاة أو سيدة فأتزوجها , ولم يطرق قلبي طوال السنوات الماضية طارق من حب يمكن أن ينتهي بالزواج .. فهل أتزوج من فتاة لا أحبها ولا تحبني ؟ .. أم هل أتزوج من فتاة قد تكون غارفة في حب شخص آخر لكنها تقبلني لمالي أو مركزي أو علمي ؟ .. إن سنوات العمر تجري وأنا الآن في أواخر العقد الرابع من عمري ورغم شبابي الظاهر أحس في أعماقي بأنني شيخ وحيد ولست أريد سوى إنسانة ترغبني لشخصي .. فهل ينتهي بي الأمر بأن أتزوج بلا حب ؟ وهل تنصحني بذلك في النهاية ؟!

 

ولــكــاتـــب هــذه الـرســالة أقـــول :

 

لن أنصحك بشئ محدد .. لكني سأقول لك فقط أن أسوأ رفيق في رحلة الحياة قد يكون في بعض الأحيان أفضل كثيرا من معاناة حياة الوحدة الوجدانية والفعلية التي تعاني منها الآن , إن الإنسان قد يشكو أحيانا من افتقاد العاطفة في حياته الشخصية أو من بعض نواقصها، ومع ذلك فإنه لو وضع أمام الاختيار بين حياته الفاترة هذه وبين معاناة الوحدة الداخلية والخارجية معا لاختار بلا تردد حياته بمشاكلها ونواقصها وبكل ما يشكو منه فيها .. فالإنسان كائن اجتماعي بطبعة تشق عليه وحدته .. ويشقى بها أكثر مما يشقى أحيانا بمتاعبه مع الآخرين .. ولا عجب في ذلك .. ألست ترى أن أقسى ما يحكم به على سجين حين يريدون مضاعفة العقاب له .. هو الحبس الانفرادي مع أفكاره وهواجسه لفترة تطول أو تقصر فلا يكون له من أمل خلالها إلا أن يخرج , لا للحرية وإنما إلى السجن الجماعي مع رفقاء لا يرحب أحد بصحبتهم ؟ هكذا الإنسان في كل زمان ومكان , وأنت لن تتغلب على وحدتك ولن تجد ما تبحث عنه إلا إذا تخليت أولا عن سوء الظن بالآخرين , لأن سوء الظن ليس في حالات كثيرة من حسن الفطن على عكس القول الشائع .. ذلك أنه في مقابل كل فتاة انتهازية تتخلى عمن تحب لترتبط بمن لا تحب طمعا في ماله أو مركزه , هناك العشرات ممن لا يضحين بالحب لحسابات مادية مهما كان شأنها .. وسيطرة هذه الفكرة عليك لن تذيب الجليد في علاقاتك الإنسانية بما يفتح لك الطريق لكي تلتقي بمن ترتبط بها .. والقبول النفسي وحده قد يكفي في بعض الأحيان لبدء مشروع يأمل طرفاه خلال فترة الخطبة أن يتفهم كل منهما الآخر .. ويقترب منه .. ويتحسس مشاعره تجاهه إلى أن تولد شرارة الحب بينهما .. وما الخطبة في النهاية إلا مشروع ارتباط قد يكلل بالزواج وقد يتبين طرفاه أن كلا منهما لم يخلق للآخر فيمضي في طريق مختلف بلا مرارة ولا لوم على أحد.

 

ومالك ومركزك وعلمك ليست في النهاية سوى بطاقة تعارف تتقدم بها للآخرين , لكن هذا التعارف لا يتحول أبدا إلى صلة حميمة إلا إستنادا إلى شخصيتك انت وأخلاقك وحسن معاملتك للآخرين وتعاطفك معهم .. وما يحدث في العلاقات الإنسانية يحدث أيضا في أمور الزواج .. فبطاقة التعارف تقدمك لمن لا تعرفك وتفتح الباب لبداية مشروع الزواج , ثم تقوم شخصيتك بباقي المهمة .. وحين تولد شرارة الحب في قلب من تجمعك بها الأقدار فلن تلتفت طويلا إلا إلى رغبتها في أن تمضي الحياة إلى جوارك , وأن تقاسمك حياتك وتسكن إليك .. فاشترك في المباراة ولا تقنع بإبداء المخاوف وانتقاد اللاعبين , ولا تضيع على نفسك فرص الارتباط بمن يستحقونك بالاستنامة إلى سوء الظن ووهم الطمع في مالك أو مركزك , فتلقى مصير الشكاكين الذين يخشون أفضل من وضعتهن الأقدار في طريقهم ثم ينتهون للأسف إلى الإرتباط بمن تحسن التصنع والتظاهر بغير ما تبطن .

ولا بأس بعد ذلك أبدا أن تتزوج كما يتزوج البشر وأن تأمل كما يأملون أن تكون حظوظهم في الحياة أفضل وأسعد فيهبك الله ما أردت .. ويجزيك عن برك بأهلك وكفاحك النبيل في الحياة , وانصافك العادل الكريم لزوجتك السابقة "التي شهدت لها رغم الانفصال وتعففت عن منازعتها في شئ" خير الجزاء وأفضله إن شاء الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات