المقابلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

المقابلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


المقابلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا فتاة في الثانية والعشرين من عمري وطالبة بكلية عملية تستدعي تأخري خارج البيت، ومنذ عامين تعرفت بشاب يكبرني بأربع سنوات وأحسست من أول لقاء معه كأن كلا منا يحب الآخر منذ زمن طويل , وأحبني هو حتى أصبح لا يطيق أن نفترق ويأتي معي إلى كل مكان أذهب إليه وتعاهدنا على الزواج لكنه لم يستطع أن يفاتح أهله على الفور لأن شقيقته الكبرى لم تتزوج بعد .. وعرف أهلي بقصتي معه فجاء ليشرح لأمي ظروفه حيث أنني يتيمة الأب , وبعد ذلك فاتح أهله في خطبتي بعد أن عرف بوجود خطيب آخر يرغب في التقدم لي ففوجئت برفض أسرته ليس لفكرة زواجه قبل شقيقته ولكن لشخصي أنا بالذات.

وكانت والدته أكثر المعترضين بشدة على ذلك وحزنت لذلك وغضبت .. وامتنعت عن لقائه لفترة قصيرة ثم لم أطق الصبر على ذلك ولا هو فقررت أن أقوم بخطوة هامة هي أن أذهب إلى بيته والتقي بوالدته وأسألها عن سبب اعتراضها على شخصي , ولم يكن ذلك أمرا سهلا بالنسبة لي لكني لم أجد أمامي حلا غيره .. فتشجعت وذهبت إلى بيتها والتقيت بالأم وسألتها عن سبب رفضها لي ، فعرفت منها أن سبب الرفض هو أني أخرج كثيرا مع ابنها وأتواجد معه دائما وفي كل مكان وأنني سهرت حتى وقت متأخر مع أني لم أكن وحدي وإنما كان معنا إخوته وأصررت على حضورهم وكان كلام الأم معي حادا وجارحا فقد قالت أن بيتي ليس به حزم وفيه تسيب وأنني لا أصلح زوجة لإبنها .. ودافعت عن نفسي بقدر جهدي وانتهت المقابلة بأن وعدتني بأن تفكر في الأمر من جديد وبعد ذلك بفترة أبلغني فتاي بأن أمه سوف تجئ معه لزيارتنا وفرحت بذلك لكني أحسست حين جاءت أنها تأتي على مضض فقد زارتنا لكنها لم تتكلم مع أمي عن خطبتنا كلمة واحدة واكتفت بالزيارة وتفقد الأحوال وبعد ذلك عاد فتاي لمفاتحة أهله فقوبل مرة أخرى بالإصرار على الرفض وكررت والدته من جديد أنني لا أصلح له وأنني .. وأنني .. مع أني والله لم أفعل شيئا سوى أني عرفته .. فهل هذه جريمة أحاسب عليها ؟ إن كل ما يقولونه عني محض افتراء .. لهذا أرجوك أن تكتب كلمة إلى أهل حبيبي وتقول لهم فيها أنه ليس من حق أحد أن يحكم على أسرة إلا بعد أن يعاشرها ويعرفها عن قرب .. وليس من حق أحد أن يقسو على أم ترملت منذ 19 عاما وربت بناتها ووصلت بهن إلى أعلى المراكز.

وأن توجه كلمة إلى الناس جميعا بأن يحكموا بالعدل ولا يحكموا بالباطل فقد فعلت ما فعلت من أجله .. فلماذا يحاسبونني على ذلك الآن ؟

ولماذا يسمع كلامهم ويتوقف عن الإتصال بي منذ فترة طويلة؟

 

ولـــكـــاتــبة هــذه الــرســالــة أقــول:

 

لأن هذا هو منطق الحياة العادل الذي كان يجب أن تعرفيه جيدا من البداية يا آنستي , وهو أن لكل شئء ثمنا يدفعه الناس مقابل أفعالهم ومن العدل أن يتقبلوه بلا اعتراض .. فالتحرر الأخلاقي مثلا يتيح للإنسان أن يستمتع بمتع عديدة ومبهجه وأن يعيش حياته منطلقا من القيود وألا يرد نفسه عن شئ من لذائذ الحياة , لكن ثمنه العادل هو سوء السمعة .. وانعدام الثقة وافتقاد احترام الآخرين ورفضهم له .. إن لم يكن ازدراؤهم أيضا.

وعلى الناحية الأخرى فإن الالتزام الأخلاقي يحرم الإنسان من "لذائذ" كثيرة ومتع أكثر ما أسهل الحصول عليها لو ترك نفسه لما يريد ويهوى لكن ثمنه العادل أيضا هو احترام النفس واحترام الآخرين وثقتهم فيه وقبولهم له فضلا عن رضا الضمير الذي يرشحه للسعادة الحقيقية في الدنيا وفي الآخرة.

ونحن لا نرد أحدا عن الطريق الذي يختاره لنفسه لكننا نتعجب له فقط إذا نهج نهجا وأراد أن يحصل على ثمن النهج الآخر .. لأنه يريد بذلك أن يجمع بين نقيضين أو بين حسنيين لا يجتمعان لأحد في الدنيا.

ولاشك أنك قد أسأت لنفسك كثيرا بلقائك اليومي على مدى عامين مع شاب لا تربطك به رابطة مشروعة .. وظهورك معه في كل مكان وسهرك معه حتى وقت متأخر حتى ولو كان معه إخوته , فغرست بذلك بذرة الشك في نفوس أسرته في مدى التزامك الخلقي , ولا يفيد هنا كثيرا للأسف أنك قد فعلت ما فعلت من أجله أو لارضائه لأن هناك خطا أحمر لا يجوز للفتاة الملتزمة أن تتخطاه في علاقتها بالآخرين صونا لنفسها ومراعاة لحدود ربها قبل أى اعتبار آخر.

كما أنك أسأت إلى نفسك أكثر بهذه المقابلة العجيبة مع أم فتاك واستجدائك لها أن توافق على ارتباطك بإبنها , فلقد أكدت لها فكرتها غير الطيبة عنك وعن جرأتك على الأعراف السائدة في مجتمعنا ولاشك أنك قد رخصت نفسك بها كثيرا لأن الفتاة الكريمة لا يصح أن تعرض نفسها على من يرفضها أو تحاول إقناعه بها .. ولو كان فتاك متمسكا بك حقا لأستطاع إقناع والدته وأسرته بك ولأعفاك من هذا الموقف المهين , لكن الحقيقة التي تغيب عنك وعن كثيرات هي أن الرجل قد يحب فتاة فعلا لكنه ينكر عليها في أعماقه تفريطها معه .. فيظل يحبها بقلبه ويرفضها بعقله , ولا يجد حلا لهذا الصراع سوى الرغبة الخفية في استمرار علاقته بها على ما هي عليه والتهرب من الزواج بها أو تأجيله أو عدم بذل الجهد الكافي لتذليل عقباته , وهذا في ظني هو موقف فتاك الحقيقي منك وإلا فماذا كان يمنعه وقد مضت فترة طويلة على آخر محاولة عن أن يكافح مع أسرته لنيل موافقتها عليك والعودة الظاهرة إليك .

لقد كان التصرف الصحيح في قصتك منذ البداية هو أن تتحفظي في علاقتك به وأن تخيريه بين التقدم إليك وإقناع أسرته بك أو الامتناع نهائيا عن لقائه وطي هذه الصفحة كلها بخيرها وشرها والتفتح لمؤثرات الحياة الأخرى .. وسواء نجح في ذلك الآن أو لم ينجح فلقد تعلمت درسا قيما سوف يفيدك في مستقبل أيامك وهو أن "المطلوب" أعلى قيمة دائما من "المعروض" فلا تعرضي نفسك مرة أخرى على أحد .. وإرفعي من قدرها في عيون الآخرين بالالتزام الخلقي والديني وإتقاء الشبهات .. وعندها لن يسئ الناس الحكم عليك ولن يحكموا عليك "بالباطل" كما يفعلون الآن .. والفرصة على أيه حال لم تضع بعد.



نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات