الأحجار الثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أكتب إليك بعد تردد دام حوالي 3
سنوات , حاولت خلالها حل المشكلة التي أواجهها بلا جدوى .. فمنذ 17 عاما تزوجت بعد
قصة حب ضد رغبة أهلي الذين عارضوني بشدة في هذا الزواج فتمسكت به في وجه الجميع
وتزوجت بمن أردت , فلم يدم هذا الزواج أكثر من عامين ونصف عام فقط عدت بعدها إلى
بيت أسرتي وفي يدي طفلة صغيرة كانت هي ثمرة الحب المندفع ورفض نصائح الأهل وبدأت
مفاوضات الطلاق وصمم مطلقي على ألا يمنحني حريتي إلا بعد أن أوقع له على تنازل
كامل عن كل حقوقي المادية وإقرار مني بأني لن أطالبه بأي شئ لنفسي أو لابنتي طوال
حياتي وفي مقابل هذا كتب لي اقرار بتنازله عن حقه الطبيعي والشرعي في ابنته مدى
الحياة .. وانطوت صفحة الحب والزواج وعدت لحياتي بين أسرتي وحاولت تضميد جراحي
النفسية بعد انهزام الحلم في السعادة وتفانيت وتفانى معي أهلي في رعاية طفلتي
والعناية بها لتعويضها عن حرمانها من أبيها وحرصت طوال السنوات التي تلت ذلك على
ألا أشوه لابنتي صورة أبيها في مخيلتها أو أذكره بسوء أمامها حرصا على سلامتها
النفسية، ومضت الحياة بنا حتى بلغت ابنتي سن التاسعة من عمرها ففوجئت بها تأتي إلي
ذات يوم بصورة لأحد لاعبي الكرة المعروفين والذي لا تربطنا به صلة من أي نوع , ثم
تسألني وهي تنظر للصورة بإعجاب : هل هذا هو أبي ؟!
وأدركت في هذه اللحظة أن ابنتي
تبحث لنفسها عن أب تتوجه إليه بمشاعرها كغيرها من الأطفال لأنها لم تر أباها ولم
تسمع صوته منذ كان عمرها أقل من عامين .. وأحسست بأن من حقها أن تعرف أباها وتراه
فاتصلت بجدها لأبيها وطلبت منه ترتيب لقاء "لا أحضره" تتعرف خلاله
الطفلة على أبيها لأول مرة بعد الانفصال , وسافرت مع الطفلة إلى البلدة التي يقيم
فيها أبوها لتراه , فما أن رأته للمرة الأولى حتى انهارت وانخرطت في بكاء شديد
وراحت تعاتبه بحرقة على عدم سؤاله عنها كأنما كانت تعرفه وتتعامل معه طوال السنوات
الماضية .
وأمضت الطفلة عشرة أيام في بلدة
أبيها ورأته أكثر من مرة وتعرفت على أسرته وأعطاها الأب لعبة صغيرة احتفظت بها
وحرصت عليها وعدنا إلى حيث نعيش ونقيم .
وخلال السنوات التالية رأت
ابنتي أباها بضع مرات تعد على أصابع اليد , ولم يبذل هو من جانبه أي جهد للحفاظ
على هذه الخيط الرفيع بينهما , ومضت خمس سنوات على هذا الحال وبلغت ابنتي سن
الرابعة عشرة ثم سافرت إلى أبيها في بلدته لتراه وعادت من هناك في حالة انهيار
كامل .. وراحت تلاحقني بالأسئلة الكئيبة التي لا جواب لها من نوع :
لماذا يفعل معي ذلك .. ولماذا
يتجاهلني ؟ .. ولماذا لا يدعوني إلى بيته .. ولماذا لا يتصل بي تليفونيا ويحدثني
ويسأل عني ويهتم بأمري كما يفعل الآباء مع بناتهن .. ثم تعقد المقارنات بين حالها
وحال صديقاتها وزميلاته اللاتي يهتم أباؤهن إلى حد تضييق الخناق عليهن أحيانا
وتعود لترهقني بالسؤال : لماذا لا يخاف أبي علي كما يخاف هؤلاء الآباء على بناتهن
؟ ألست فتاة مثلهن .. أم أن أباءهن من عجينة غير عجينة أبي؟
إن الحيوانات وحدها هي التي
تنجب ثم تلقي "بضناها" في الأرض فلماذا يفعل بعض البشر نفس الشئ؟
ولماذا نتعذب نحن بأفعالكم .. إلخ .. حتى أحس بأن أحجارا ثقيلة فوق صدري وأكاد أعجز أحيانا عن التنفس , وهي لا تكف عن هذا الحديث الموجع ولا عن لومي على ما لا قدرة لي عليه , ثم بدأت شيئا فشيئا تتغير تغيرا مخيفا وتتحول تدريجيا إلى وحش آدمي يتفنن في تعذيبي وإيلامي بكل وسيلة والتصرف معي بقسوة بالغة , ولا تهدأ ولا تكف عني إلا بعد أن أنهار باكية أو أسقط من طولي أمامها كما حدث لي معها منذ أيام قليلة , وتحولت الفتاة التي كانت رقيقة ومهذبة إلى مدفع يلقي علينا قمامة من الألفاظ السوقية العجيبة كما أصبحت لا ترحمني ولا ترحم أحدا في مطالبها ولا تقدر الظروف ولا تتقبل أعذارا وتتمادى في ضغطها علي حتى بدأت أحس بمبادئ الذبحة الصدرية مما أعانيه من ضغطها وقسوتها وسوء أدبها معي .. وأقدمت هي أيضا على محاولة الانتحار أكثر من مرة , وبعد أن كانت من المتفوقات في المدرسة أهملت دراستها وتوقفت عن الصلاة وأصبحت تنهرني إذا طلبت منها خلال عصبيتها أن تقرأ بعض الآيات المباركة لتهدئ من روعها وتتمادى في الرفض إلى حد التمرد الذي يقشعر له جسمي خوفا ورعبا وازداد وزنها بصورة ملحوظة لأنها تأكل بصورة انتقامية , ولم يفلح معها أي علاج طبي من الابر الصينية إلى العقاقير في إعادتها إلى طبيعتها , وهي تردد الآن بإستمرار أنها تريد أن تنتقم من أبيها لاهماله لها كل هذه السنين , واثنيها دائما عن أفكارها السوداء وأؤكد لها مرارا أن الانتقام هو سلاح الضعفاء , وأحدثها عن حقوق الأبوين على الأبناء وواجبهم تجاههما , ولكن بلا أى صدى من ناحيتها , بل امتدت في تصرفاتها الجافة وألفاظها القاسية إلى أبي وأمي أيضا كلما إلتقت بهما.
إنني أتعذب كل يوم يا سيدي
بابنتي أكثر مما تعذبت منه في كل حياتي .. فهل توجه لها نداء لكي تكف عن ايلامي
وتعذيبي وتعود لنفسها ورشدها .. وهل توجه نداء آخر إلى "أعمى القلب
والبصيرة" ذاك بأن يتقي الله في ابنته ويحافظ على علاقته بها مع العلم بأننا
لم نطالبه بأي شئ لها؟
وأخيرا فهل يسمح لك وقتك
باستقبالي مع ابنتي لكي تتحدث معها وتساعدني في انقاذها من تدمير نفسها ومن اليأس
الكامل من الحياة والرغبة الشريرة في الموت التي تسيطر عليها الآن .. ولك كل شكري
وعرفاني مقدما.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتـــبة هــذه الـــرســالــة أقـــول:
ذكرني تصرف ابنتك حين بحثت عن
أبيها في صورة لاعب كرة مشهور "بقصة روسية حزينة عن طفل صغير مات أبوه في
الحرب" ورأى الأطفال الآخرين لهم آباء يصطحبونهم إلى المدرسة ويعودون بهم
منها , فتمنى أن يكون له أب مثلهم ثم أعياه الصبر على انتظار عودة الأب الغائب من
سفر لا نهاية له كما أوهمته أمه , فقرر أن يشتري لنفسه "أبا" وانفلت من
المدرسة ذات يوم وراح يطوف بالمحلات التجارية يتأمل دمى الرجال التي تعرض الملابس
الرجالي في فترينات المحلات التجارية , ويتأملها ويتخير من بينها من يرى صاحبها
أقرب إلى صورة الأب في خياله , ثم استقر رأيه أخيرا على أحداها ودخل إلى صاحب
المحل يسأله في براءة مؤلمة عن "ثمن" ذلك "الرجل" الواقف في
الفاترينة , وأصيب بصدمة شديدة حين عرف أنه مجرد دمية لا تصلح لأداء دور الأب في
حياته.
وما حدث لابنتك من تغيرات محزنة
هو في تقديري من أثر نفس الصدمة المشابهة حين اكتشفت بعد 5 سنوات من اتصالها
بأبيها أنه مازال كتلك الدمية التي لا أمل فيها ولا رجاء , وأنه لم يقم بدور الأب
الذي تحتاجه الآن بشدة وهي في مرحلة المراهقة .. ولم يشبع احتياجاتها النفسية
والوجدانية منه , ونتيجة لضيقها بهذه الحقيقة تنهال عليك بالأسئلة الثقيلة ,
وتتخطاها إلى إيلامك وإساءة الأدب معك والقسوة عليك , فتترجم بذلك احساسا خفيا لا
تدري كنهه بأنك مسئولة بشكل أو بآخر عن حرمانها من أب يرعاها ويخاف عليها كما يخاف
الآباء على بناتهم .
ولأنها لا تجد أباها الحقيقي
أمامها لتصب عليه لومها وحنقها .. فإنها تحول لومها وانتقامها إليك , وتعمدها
إيلامك بقصد أو بغير قصد يعكس عدوانيتها الخارجية تجاهك وتجاه الآخرين وافراطها في
الطعام بغير وعي يعكس عدوانيها في تدمير الذات وقد بدأت هذا الطريق بإهمال الدراسة
وإهمال واجباتها الدينية ورفضها لقبول الحل الإيماني لمشكلتها مع أنه أفضل الحلول
لها ويبدأ بالتسليم بأن هذا هو قدرها وعليه أن تتقبله راضية وتتكيف معه , ثم تتجه
بأملها إلى ربها في أن يعوضها عما حرمت منه بجوائزه العديدة للصابرين وضحايا أخطاء
الآخرين .
فلا شك أنها في النهاية ضحية
لجرائم عديدة وبالرغم من ذلك فإن هذه الحقيقة لا تعطيها أبدا الحق فيما تفعله بك
أو بنفسها , فليس من حقها أن تحاسبك أنت عن ضعف إحساس أبيها بمسئوليته عنها ولا عن
جهله بمدى احتياجها النفسي والأدبي إليه وليس من حقها أن "تجلدك" كل يوم
بما تراه من مسئوليتك عن حرمانها من أن تنشأ في أسرة طبيعية بين أبوين يحبانها
ويعطفان عليها فما أكثر من حرموا من آبائهم أو أمهاتهم , فما زادهم ذلك إلا عطفا
على ذويهم وارتباطا بهم وفهما لتعاستهم .. فلماذا تختار هي ألا تكون من الرحماء ..
وممن يتلمسون الأعذار للآخرين ويتركون حسابهم لخالقهم .. ثم ممن تنتقم .. ولماذا
الانتقام أصلا , والحيوانات المفترسة التي استشهدت بها في حديثك معها لا تنتقم من
أبويها حين يهملانها ويتركانها لنفسها , وإنما تنشغل بمعركة البقاء .. والدفاع عن
النفس .. وتتحمل مسئولية ظروفها , وإذا كان هذا هو حالها فكيف لا تدافع هي عن
نفسها في معركة الحياة ضد هذه الظروف وتعود إلى رشدها وإيمانها وواجباتها الدينية
والدراسية فتنجو من الهلاك وتقدم للحياة فتاة جميلة ناجحة متدينة يتمناها كل إنسان
لنفسه .. ويندم أبوها أن حرم نفسه من الاسهام في صنعها فيحق له الفخر بها؟
إن هذا هو "الانتقام"
الوحيد المقبول من فتاة في مثل ظروفها .. أما إيلام الأم ومحاولة الانتحار عمليا
أو بالشراهة في الطعام وإهمال الدراسة وسوء الأدب إلخ .. فليس سوى إنهزام بلا
مقاومة أمام هذه الظروف ناهيك عما توعد به ربك من لا يحسن معاملة أبويه ويقف معهما
عند حد الأدب حتى وإن ظلماه , من عذاب مقيم في طائره في عنقه إلى يوم الدين ولسوف
يحاسبه عنها ربه حسابا عسيرا .. فلينظر كيف يجيب حين يسأله خالقه جل شأنه عما قدم
لها وعمل فعل .. وهل وصلها وأغدق عليها من عطفه وحبه وماله أم أهملها .. وهل حماها
من شرور الحياة أم تخلى عنها وتركها تصارع غوائلها بلا ناصر ولا معين .. والله
"كما جاء في الحديث الشريف" سائل كل راع عما استرعاه حفظ .. أم ضيع ؟..
فكيف يكون جوابه يوم يكون الحساب ؟ بل إني لا أفهم حتى الآن كيف يقبل أب أن تقوم
مطلقته بكل أعباء الحياة لابنته وهو حي يدب بقدميه فوق الأرض ويستطيع على الأقل أن
يسهم ببعض نفقتها أو أن يخفف عنها بعض جفاف حياتها ؟!
وهب أنه عاجز عن ذلك ماديا رغم
شكي في ذلك .. فكم يكلف العطف والحب والاهتمام واشعار الابنة المحرومة بأن لها أبا
يهتم بأمرها ويتحمل مسئوليتها الإنسانية أمام الله وأمام الجميع .. أم ترى أن ذلك
كثيرا أيضا على دُمى الرجال التي لها هيئتهم لكنها لا تنبض بنخوتهم ولا مشاعرهم
؟!!!
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر