نصل السكين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
كنت
طالبة بكلية الحقوق حين تزوجت من شاب يكبرني بسبع سنوات ويعمل بوظيفة مرموقة .. وكانت
حياتي الزوجية معه طبيعية وهادئة فلم يعكر صفوها إلا تأخري قليلا في الإنجاب.
وبدأت
أرى القلق في عيون الأهل من الجانبين وخاصة أبويه نظرا لأنه وحيدهما .. أما هو فلم
يفاتحني في أمر الإنجاب ولم يبد أي قلق لتأخره.
ثم
زرت الطبيب فأكد لي أني طبيعية تماما وليست لدي أي عوائق تمنع الإنجاب ونصحني بأن
يقوم زوجي بعمل التحليلات اللازمة لهذه الحالة .. وأبلغته رأي الطبيب فلم يهتم ولم
يبد أي استعداد لإجرائها فلم ألح عليه في ذلك وبعد عام من زواجنا حدث أن كنت أنظف
إحدى بدل زوجي فعثرت مصادفة على مظروف ظننت في البداية أنه دعوة لحضور زفاف وفتحته
فوجدت به تحاليل طبية خاصة بزوجي فانقبض صدري لتعمده اخفاء اجرائها عني وقمت سرا
بعرضها على أحد الأطباء فقال لي إنها تقطع بأن زوجي غير قادر نهائيا على الإنجاب
لانعدام الحيوانات المنوية سواء حية أو ميته لديه .. وصدمت صدمة كبيرة لتبدد حلم
الأمومة من حياتي إلى الأبد.. وبعد تجاوز الصدمة بدأت أحس بالأسى له لمكابدته
كتمان هذا السر في صدره وهو وحيد أبويه اللذين يتطلعان لرؤية ابنائه ولم أصارحه
بما عرفت عنه وتجنبت الاشارة نهائيا لموضوع الإنجاب.. وتحملت صابرة إيماءات الأهل
.. وملاحظاتهم على تأخر الإنجاب وتمسكت بالصبر حتى حين بلغت في بعض الفترات حد
الحاح أبيه عليه بأن يتزوج مرة ثانية مادمت "لا أنجب" فقد كنت مطمئنة إلى
رفض زوجي لأي فكرة من هذا النوع وإلى تمسكه بي.
وشغلت
نفسي بإستكمال دراستي وتخرجت وعملت بوظيفة محترمة .. وتعاونت مع زوجي في شئون
حياتنا حتى استطعنا شراء سيارة وشقة تمليك في إحدى المدن الجديدة إلى جانب شقتنا
التي نقيم بها وسافرنا معا لأداء العمرة عدة مرات وأدينا فريضة الحج مرتين معا
وتفانيت في خدمته وإرضائه.. ولم أحاول يوما تكليفه بأي نفقات خاصه لي بل كنت أنفق
راتبي كله على شئوني وعلى تعاوني معه في شئون الحياة وتجاوزت عن بعض نوباته
العصبية وأرجعتها إلى عدم الإنجاب وإلي معاناته بسبب ذلك.. والحق أنها لم تكن
كثيرة فمضت 20 عاما من حياتنا ونحن نعيش حياة هادئة دافئة بالحب والفهم والتعاون ..
ثم شعر ذات يوم بألم بسيط في بطني ولاحظت كبر حجمه قليلا فتوجهت للطبيب الذي
أخبرني بوجود أورام حميده كبيرة بالرحم وضرورة استئصالها وكان معني ذلك استئصال
الرحم وقمت بإجراء الجراحة دون علم الأسرتين .. وطلبت من زوجي أن يتكتم هذا السر
حتى لا أثير مخاوف أهلي من زواجه بأخرى بهدف الإنجاب ..لأنه لا
أحد
يعرف من الأهل أنه غير قادر عليه وعاهدني زوجي على ذلك .. وعدت لبيتي وواصلنا
حياتنا السعيدة .. وفي فترة نقاهتي توفي جار لنا بالبيت المجاور تاركا زوجة وطفلين
.. وكان رحمه الله رجلا صالحا فتحاملت على نفسي في اليوم الثالث لوفاته لأقوم
بواجب العزاء فيه .. وقبل أن أغادر شقتي خرجت إلى الشرفة فلمحت أرملته في فستان
فاتح تقف في شرفة مسكنها فتشاءمت وعدلت عن مغادرة الشقة ومواساتها بل وعدلت أيضا
عن عرض خدماتي عليها لمساعدتها في استخراج أوراق الوفاة والميراث التي تؤهلني
وظيفتي للمساعدة فيها.
ومضي
عام على ذلك ثم استيقظت ذات ليلة من نومي فلم أجد زوجي إلى جواري وشعرت بالخوف من
احتمال أن يكون أحد الأهل أو الجيران قد أصيب بمكروه فنزل لنجدته.. لكن شيئا ما لا
أعرفه دفعني للبقاء في سريري طوال الليل بغير نوم إلى أن أحسست به يدخل الشقة
فتظاهرت بأني نائمة .. وفي الصباح لم يخبرني بشئ عن غيابه ولم أفاتحه عنه.. وراقبت
عودته بعد ذلك كل ليلة في صمت إلى أن رأيته ذات ليلة يغادر بيت الأرملة الجديدة
ولم أطق الصمت أكثر من ذلك وواجهه فإذا به يقول لي أنها زوجته على سنة الله ورسوله
ومنذ شهرين!
وهوت
هذه المفاجأة على رأسي كالمطرقة الثقيلة .. ثم توالت المطارق فعرفت أن أهل الحي
جميعا يعرفون بأمر زواجه بعد أن لاحظوا تسلله إلى بيتها ليلا وأن بعضهم قد واجهوه
عند ذهابه لها فاضطر لاعلانهم بزواجه منها.
وعرفت
ما هو أقسى من ذلك .. وهو أنه يبرر للأهل والأصدقاء زواجه منها .. بالرغم مما نعيش
فيه من تفاهم وسعادة وإخلاص بأنه يريد أن يلحق بقطار "الإنجاب" بعد ان
انتهى الأمل نهائيا في قدرتي عليه باستئصال الرحم!
وأحسست
أنني قد خدعت خدعه عمري .. فزوجي الذي أخلصت له وأحببته وكتمت سره لم يحفظ لي عهدي
ولم يكافئني على وفائي بوفاء .. ولم يقدر لي تمسكي به 20 عاما كنت قادرة خلالها على
الحمل والإنجاب والزواج من غيره وتحقيق حلم أمومتي إذا أردت ذلك وإنما كافأني
بالغدر حين انتهت قدرتي على الإنجاب باستئصال الرحم .. وسعي للزواج من غيري وبرر
خيانته بعجزي عن الانجاب طوال رحلة زواجنا !
ولـكـاتـبة هـذه الـرسـالة أقـول:
الخطأ
يا سيدتي خطأ من يخون العهد وليس من يحفظه .. فالوفاء لا يمكن أن يكون خطيئة حتى
ولو كوفئنا عليه بالغدر والخيانة .. وحتى لو تحسرنا على ما مضى من عمرنا فيه وقلنا
مع الحكمة الهندية " ليس أضيع من وفاء يمنح لمن لا وفاء له".. فإنما قد
فعلنا ما فعلنا ونحن نتطلع إلى وفاء الآخرين ونطلب سعادتنا معهم .. ولم نقرأ الغيب
لنعرف ماذا يدخرون لنا بعد هذه الرحلة الطويلة .. وما كنا نملك إلا أن نفعل ما
فعلنا وفاء لطبيعتنا نحن قبل أن يكون وفاء لمن عاهدونا على الوفاء .. فلا تندمي يا
سيدتي على أن وفيت لمن شاركته حلو الحياة ومرها 22 سنه ولا تلومي نفسك أن حفظت سره
.. فلقد فعلت ما ينبغي أن تفعله من أحبت شريكها ورغبت في أن تمضي رحلة العمر معه
في سلام حتى النهاية .. فإن كان قد غدر بك وقابل إنكارك لذاتك وحفظك لسره ورعايتك
لمشاعره وكرامته كل هذه السنين بالافتراء عليك بما لم يكن فيك فعار الجحود
والافتراء على من جحد ومن افترى وليس على أحد غيره .. ويبدوا أنه أراد بغير وعي
إسقاط ما يحس به من نقص بسبب عدم القدرة على الإنجاب عليك أنت .. وإيهام نفسه قبل
الآخرين بأنك كنت المسئولة عنه طوال سنوات الزواج مع أن العقلاء يدركون تماما أنه
لا فضل لأحد في قدرته على الإنجاب ولا عار لأحد في عجزه عنه.. والأكثر استدعاء
للأسف هو أنه كان يستطيع أن يكون صادقا مع نفسه ومعك ومع الآخرين حتى بعد مغامرته
التي لا مبرر لها فيعترف لك وللآخرين بأنه أقدم عليها استجابه لضعفه أمام نزوة لم
يستطع رد نفسه عن الوقوع فيها .. أو استجابة لحنينه الدافق إلى الأطفال وتطلعه
الخفي لممارسة الأبوة مع طفلي تلك الأرملة أو حتى تلبية لاحتياج بيولوجي يرى خطأ
أو صوابا أنك لا تلبينه له كاملا.
كما
كان يستطيع أن يرجع عما فعل بعد انفضاح ستره ويطلب صفحك ويعوض نقص حياتكما برعاية
طفلة محرومه أو طفل محروم كما يفعل بعض الفضلاء ممن يأبون إيلام شريكاتهم لكنه لم
يفعل شيئا من ذلك .. ولم يتجمل فيسرحك بإحسان حين طلبت الطلاق .. ولم يحسن ختام
قصة جميلة للحب والتفاهم استمرت 22 سنه فلم يؤد حقوقك المادية إليك بلا منازعة .. ولم
يكن كريما معك كما ينبغي لمن تعاشرا بمعروف ربع قرن من الزمان .. ولسوف تحصلين على
الطلاق بحكم القضاء الذي يعطيك حق طلبه للضرر خلال عام من زواجه الآخر بغير
موافقتك أو علمك فتنطوي إذن هذه الصفحة الحزينة من حياتك ولتعفي نفسك من اللوم .. فلقد
اخترنا حياتنا بإرادتنا وسعدنا بما سمحت لنا به من أيام السعادة .. وشقينا بما جرت
المقادير أن نشقى به منها.. ولم يعد لدينا سوى أن نتطلع إلى المستقبل بقلب يخفق
بالأمل في أيام أخرى من السعادة والتعويض والمستقبل كما عبر عنه الكاتب المسرحي
الأمريكي تنيسي وليامز هو في كلمة واحدة : ربما!
وأيا
ما سوف تحمله لنا هذا الكلمة من مجهول لا نعرفه فمن الضروري ألا نسمح لهذا المجهول
أن يخيفنا.
فربنا
بدأت حياة جديدة بعد أن تحصلي على الطلاق مع آخر في مثل ظروفك ويحتاج إلى سيدة
ناضجة ووفيه ولا تنجب مثلك وربما استعاد زوجك نفسه.. وتخلى عن أوهامه في الانجاب
وعاد إليك نادما فقبلت بعد حين ندمه وصفحت عنه وربما تصالحت مع نفسك على الحياة
وحيدة لفترة من الزمن إلى أن تبرأ جراحك وفي كل الأحوال فإن شتاء الأحزان لن يطول ..
وكل شتاء لابد صائرا إلى ربيع .. كما قال ذات يوم الشاعر الانجليزي الفريد تنيسون ..
فصبرا ولن يطول الصبر بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" أكتوبر عام 1991
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر