الراية البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

الراية البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

                       الراية البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

أعرف أن مشكلتنا لا تقاس أو تقارن بالمشاكل الأخرى التي تصل إليك، لكن الحقيقة هي أنها تؤرقنا جميعا وتفسد علينا حياتنا ونحن ثلاثة أبناء , فتاة هي أكبرنا وهي متزوجة وتعمل مع زوجها في مدينة أخرى , ثم أنا .. وأنا فتاة في بداية سن الشباب وشقيق يصغرني بعامين والقصة هي أن والدنا قد تزوج متأخرا نسبيا وأنجبنا في سن كبيرة إلى حد ما وهو الآن على مشارف سن المعاش , وهو رجل محترم وأب طيب وعادل وصارم بعض الشئ وتحكمنا به علاقة يسودها الاحترام والخجل من جانبنا من أن نواجهه بأي شئ لا يرضيه , وأمي كذلك في علاقتها به .

وقد فوجئنا به منذ فترة وقد صبغ شعره الذي شاب واحترق كله سريعا وبغير تدرج ثم بدأ أبي يتصابى بشكل غير لائق بالمرة به وبسنه ومركزه وبدأ يكرر في أحاديثه أنه صغير السن وأنه قد تزوج متأخرا ودفن شبابه من أجلنا إلخ .. واعتقدنا في البداية أنها أزمة منتصف العمر التي يمر بها بعض الرجال والتي أشرت إليها في بعض ردودك السابقة , وانتظرنا أن تمر بسلام .. لكنها لم تمر وإنما طالت وتمادت فقد بدأ أبي يرتدي ما لا يليق به من ملابس من ناحية الألون والموديلات مع أننا لسنا ميسورين من الناحية المادية بحيث نتحمل عبء شراء ملابس جديدة كل حين ولا عبء أناقة مبالغ فيها , ومما زاد الأمر خطورة أنه بدأ يلمح لنا من حين لآخر بأنه سيتزوج من فتاة صغيرة يستعيد معها شبابه مرة أخرى بغير أن يدرك كم يجرح احساسنا بهذه التلمحيات , وخاصة مشاعر أمي الضعيفة التي تكتفي بالبكاء والتحسر وقراءة القرآن الكريم باعتبار أن ما نواجهه هو لفحة حسد أصابت البيت الهادئ وسكانه فضلا عن أن حالتنا المادية لا تسمح لنا بتحمل أي نزوات من هذا القبيل, وأشعر وأنا متألمة بأن الناس قد بدأوا يفقدون احترامهم لأبي بعد أن صبغ شعره , وبالغ في العناية بمظهره , كما بدأ هو في الابتعاد عن أصدقائه المفضلين بحجة أنهم كبار في السن ولا يحملون روح الشباب التي مازالت تسري في عروقه , وأصبحت المرآة الآن هي صديقه الأول حيث يقف أمامها فترات طويلة يرقب صورته ووجهه وهيئته وأناقته .. ويبدو أنه لم يرض عن بعض التجاعيد الطبيعية بحكم السن التي لاحظها في وجهه ففوجئنا به يطلب من قريب لنا , يعمل بالخارج "كريما" لفرد الوجه والحفاظ على شباب البشرة سبق أن قرأ اعلانا عنه بإحدى المجلات .. وأسفنا لذلك حين علمنا به واضطررنا لأن ندعي لقريبنا هذا أن أبي قد طلبه ليقدمه هدية لأحد رؤسائه !

إنني أعلم أن المشكلة قد تبدو تافهة .. لكنها تؤرقنا جميعا ونتحسب من مضاعفاتها وآثارها على بيتنا الذي مضت به رحلة العمر وهو هادئ ومحترم ولا تشوبه شائبه .. ونحن نتسائل بقلق أحيانا ماذا سيكون مصيرنا لو حاول أبي الاستدانة لكي يتزوج مرة أخرى , وماذا سيقول عني عندها أي إنسان عندما يفكر في أن يتقدم للزواج مني ؟ إننا لم نتعود أن نتكلم مع أبي بصراحة وأمي أضعف من أن تواجهه بذلك , فهل لك أن ترفع عنا هذا الحرج وتقول له أن الشيب ليس عيبا وأننا لا نخجل منه وأنه كما عاش شبابه فعليه أن يعيش شيخوخته أيضا.  

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com


ولــكــاتــبة هـــذه الــرســالــة أقــــول:

 

ليس الخطر في أن يحتفظ والدك "بروح الشباب" لأنه من المفيد فعلا أن يحتفظ بها هو وكل إنسان حتى نهاية العمر, فروح الشباب هي الحماس والإقبال على الحياة وهما أمران إيجابيان دائما .. أما الخطر الحقيقي فهو أن يسلك "سلوك الشباب" وهو في سن الجلال والاحترام فيتزيا بزيهم ويستعير منهم القدرة على الحلم وتوقد الخيال والجرأة على تحقيق الأهداف .. ثم يتوهم نتيجة لذلك أنه من الممكن حقا أن يستعيد هو أو أي إنسان شبابه الغابر بالزواج من فتاة صغيرة أو بأي وسيلة صناعية أخرى , وهي أقدم خرافة في التاريخ لأن العمر هو الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن تزييفها .. والحق أن لكل سن جمالها , وقمة توافق المرء مع نفسه هي أن يعيش كل مرحلة من مراحل عمره بما يتوافق معها , فلا يعيش شيخ الروح وهو في سن الشباب ولا يعيش شباب المظهر والسلوك وهو في سن الشيخوخة .

وإذا كانت للشباب مميزاته .. فلسن الجلال أيضا فضائلها وإيجابياتها وأهمها حكمة السنين ونضج العقل والنفس والقدرة الأكبر على فهم حقائق الحياة .. أهم من كل ذلك هو أنها تكسب صاحبها حصانة ضد الشبهات , وتهبه احترام الآخرين والاختلال يبدأ حين لا يقنع الإنسان بكل هذه المميزات ويحاول أن يتخطى حقيقة عمره بقفزة واحدة ليستمتع بما لا يجوز له الاستمتاع به من مميزات سن الشباب.

 ووالدك فيما يبدو ليس قانعا بمميزات سن الجلال والاحترام ويريد أن يجمع لنفسه بين الحسنيين وهو أمر لم يتحقق لأحد من قبله ولن يتحقق له أو لأحد من بعده .. وعلى أية حال فإني أدرك معك خطورة الحال .. لكني لست متشائما مثلك لأن 90% من الرجال الذين يواجهون أزمة منتصف العمر هذه التي تقع بين 45 و55 سنة , يتجاوزونها بسلام وبغير خسائر أو مشاكل عائلية .. وهي تبدأ حين يحس الإنسان بأن ما بقي له من العمر أقل بكثير مما مضى ويتوافق ذلك عادة مع بداية استقلال أبنائه نفسيا عنه وانشغال الزوجة عن زوجها بشئون الأسرة والأولاد أو عملها أو بالحياة الاجتماعية , أو "وهو الأخطر" مع بداية "انهزامها" هي أمام الزمن واستسلامها بلا مقاومة لعوامله .. وتسليمها الخاطئ بينها وبين نفسها بأن العمر قد ولى وبأن شئون العاطفة والعلاقة الخاصة لم تعد مما يليق بها وبزوجها .. وهذا خطأ كبير تقع فيه بعض الزوجات لمجرد أن الأبناء قد كبروا وتزوج بعضهم , فالحقيقة أن بداية تحول الزوجة من دور الزوجة والأم إلى دور الأم فقط يضاعف من أثر هذه الأزمة في حياة الزوج ويقلل كثيرا من قدرته على اجتيازها بسلام , فالزوج يحتاج إلى "زوجته" نفسيا وعاطفيا حتى نهاية العمر وهو في هذه المرحلة بالذات يحتاج بشكل مضاعف إلى أن يحس بعطف زوجته عليه وحنانها وتدليلها له أكثر مما يحتاج لذلك وهو في سن الشباب .. وتلميحات أبيك برغبته في الزواج من فتاة صغيرة في السن"تجدد شبابه" ربما تكون احتجاجا غير مباشر على إهمال زوجته لنفسها ولشئون العاطفة في علاقتها به وربما تكون أيضا نذيرا بتورطه في سلوك صبياني يحاول أن يشعر نفسه به بأنه مازال الرجل الذي كان .. والبداية الصحيحة معه في كل الأحوال هي أن تخرج زوجته عن سلبتيها وتزيد من عنايتها بمظهرها وبه وأن تشاركه اهتماماته الصغيرة وتشعره بأنه مازال فارس خيالها القديم الذي تراه أجمل الرجال , وتتمنى لو كان قد احتفظ بشعره الأبيض الساحر الذي يزيد من سحره وهيبته في عينيها وعيون الجميع , ودوركم أنتم كأبناء هو أن تشاركوه الاعجاب بأناقته ومظهره وأن تشعروه بحبكم له وفخركم به وأن تبدوا له ملاحظات رقيقة على اختياره لألوان ملابسه وموديلاتها من باب الحرص على أن يكتمل له بهاؤه بما يتوافق مع سنه , وشخصيته الآسرة وصدقيني يا آنستي أنه سوف يستجيب لملاحظاتكم سعيدا لأنها سوف تعكس اهتمامكم به وحبكم له , ولأن الإنسان إذا لم يجد من يهتم بأمره اضطر تلقائيا للاهتمام هو بنفسه وربما بالغ في ذلك كرد فعل مبالغ فيه لاحساسه بالاحتجاج الصامت من حوله على تصرفاته , والمشاركة والحوار المهذب الرقيق الذي لا يتعارض مع احترام الأبناء للآباء هما أفضل وسيلة للتواصل بينهم، لأن "يهدي" الابن لأبيه عيوبه برفق شديد ومن موقع الحب والحرص ومع كامل الاحترام والتوقير له .. أفضل كثيرا عند العقلاء من أن يصدمه بها الغرباء بغير مراعاة لأي اعتبار .

 

فساعدوه على اجتياز هذه المرحلة الحرجة التي اعتقد أن اقترابه من سن المعاش هو سببها الرئيسي وليست أزمة منتصف العمر في حد ذاتها ولا بأس بأناقته واهتمامه بنفسه وبمظهره بل ولا حتى بمحاولاته اليائسة لازالة تجاعيد السنين التي لا يمحوها شئ , ما لم يكن كل ذلك نذيرا بتقلبات عنيفة أخرى في حياته الشخصية .. ولست أتوقع ذلك فلا تقلقي كثيرا فلسوف يرفع الراية البيضاء قريبا ويعترف لنفسه باستحالة تحدي الزمن وسوف تمر الأزمة بسلام بعد حين .. والحب الصادق من الزوجة والأبناء في النهاية كفيل بصنع المعجزات.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات