السؤال الجارح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا واحد من قراء بريد الأهرام
ومن خلاله كان عزائي دائما أنني لست وحدي في هذه الدنيا الذي له مشكلة تؤرقه، فأنا شاب مصري عمري 28 سنة وأجيد ثلاث لغات أجنبية، وأكسب شهريا دخلا لا يقل عن
ثلاثة آلاف دولار وزرت معظم بلاد العالم للسياحة والعمل لكني لست سعيدا وقد سئمت
حتى محاولة الاستمتاع بالحياة واكتشفت أنني أشتري المحبة من أقرب الناس لي بالنقود
.. لقد كنت طفلا لا يهتم به أحد في أسرته لسبب غريب هو أنني من قصار القامة أو ممن
تسمونهم أنتم "بالأقزام" ولقد درست حتى حصلت على الثانوية العامة ثم لم
أستطع استكمال تعليمي الجامعي بسبب ظروفي الاجتماعية الصعبة وأيضا بسبب
"عملي" وأؤكد لك أنني لست معقدا من قصر قامتي لأنني أؤمن صادقا بأن الله
قد خلق الناس مختلفين فمنهم الطويل والقصير والأبيض والأسود والأصفر والرفيع
والسمين لتكتمل لوحة البشر .. ولولا هذه الاختلافات لكانت الحياة مملة ولا تطاق ..
رب ضارة نافعة أيضا كما يقولون فبسبب قصر قامتي عملت بالفن عن طريق إعلان قرأته
بإحدى الصحف، وأصبحت الآن بعد سنوات قليلة واحدا من المشاهير القلائل في هذه
النوعية في الفن في أوروبا وإن كانت لا تحظى في مجتمعنا بنفس الاحترام الذي تحظى
به في الخارج وعن طريق الفن استقرت أحوالي المادية وحياتي في أوروبا حيث أكتب لك
الآن ولم أنس أسرتي التي أهملتني صغيرا وأغدقت عليهم بما أملك والتمست لهم العذر
بأن جهلهم وفقرهم قد منعهم من العناية بي في الصغر وسألت الله أن يغفر لي أخطائي
كما أغفر للآخرين أخطاءهم , لكنني أشكو لك فقط يا سيدي أنهم يضنون عليّ بطابع
البريد الذين يرسلون به خطابات تخفف عني وحدتي في أوروبا .. ولا يتورعون حين اتصل
بهم تليفونيا عن أن يسألوني السؤال الجارح : وهو متى تتزوج ؟ مع أنهم يعرفون مدى
الجرح والألم الذي يسببه لي هذا الأمر .. فلقد وقعت في الحب مرتين من طرف واحد هو
طرفي أنا بالطبع وصدمت في كل مرة ولا أريد تكرار المأساة من جديد .. إذ أين هي
الإنسانة التي تقبل الارتباط بشخص مثلي من قصار القامة وإلى جانب ذلك يعاني من
تضخم بالقلب وضعف بعينه اليمنى !
لقد فكرت في الارتباط بإنسانة
مثلي من قصار القامة كأفضل حل لمشكلتي لكني لا أريد لإبني أن يشرب من نفس الكأس
التي شربت منها .. إنني أكرر لك أنني لست إنسانا معقدا وإلا ما كنت قد كتبت إليك
.. وإنما أنا إنسان مشكلته أنه أكثر إنسانية من الآخرين في زمن طغت فيه المادة على
كل شئ وقد يحاول فيه أقرب الناس لي ابتزازي واستغلالي.
إن مهنتي هي إسعاد الآخرين وإبهاجهم .. لكني أعيش بلا هدف ولا أسرة أو شريك حياة ومازال عندي أمل في أن أكون إنسانا "جيدا" يعيش حياة طبيعية كباقي البشر .. فما رأيك في ذلك؟.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
ولــكـــاتــب هـــذه الــرســالــة أقـــول :
نحن أمواج إن تسترح تمت ! كما
يقول الشاعر الفارسي صائب تبريزي , فمن يسعد الناس ليس سعيدا بحياته ومن يشقيهم قد
يكون أكثر شقاء بحياته من ضحاياه، وللطويل همومه .. وللقصير شجونه .. وكلنا في
الهم شرق وغرب ! لكن المنطق يقول لنا أن الإنسان إذا طلب سعادته بإخلاص وسلك السبل
الصحيحة المؤدية للأهداف الصحيحة .. فإنه إما أن يبلغ غايته وإما أن يعفي نفسه من
مظنة التقصير في حقها ويتشاغل عن شجونه وآلامه بسعيه الدءوب إلى أهدافه المشروعة ..
وأحسب أنك لم تبدأ بعد خطوتك الأولى في الطريق الصحيح لنيل سعادتك وتكوين أسرتك
ربما لغيابك عن مصر، وضيق دائرة الاختيار أمامك هناك , وربما لإصرارك على ألا
تتزوج ممن لها نفس ظروفك , ولكل إنسان دائما ما يناسبه لو سهل هو الأمر على نفسه
ولم يطلب لها دائما الحد الأقصى من الأشياء ولو تنازل عن بعض ما يطلبه لنفسه
ليلتقي مع الآخرين في نقطة التقاء منتصف الطريق , وكثيرات قد يرحبن بك سواء كن من
قصيرات القامة أو طويلاتها لكنهن لا يعرفنك ولا تعرفهن وأمثالك في مصر كثيرون
يعيشون حياة طبيعية بين أسرة وأبناء ويجمع الحب بينهم وبين زوجاتهم طويلات القامة
وقصيراتها , ومرض توقف النمو الذي تتحسب منه على أطفالك إذا ما تزوجت ممن لها نفس
ظروفك يعالج الآن بنجاح وإن كانت تكلفته باهظة .. بل إن العلماء يقولون أن العقود
القادمة قد لا تشهد أجيالا جديدة من قصار القامة حين تنخفض تكاليف علاج توقف النمو
وتصبح متاحة أمام الجميع.
فتفاءل يا صديقي، فالمشكلة ليست مستعصية على
الحل .. وعد إلى بلدك في إجازة طويلة تتلفت خلالها حولك وتلتقي بمن ترتاح لها
وترتاح إليك فيكون هذا بداية كافية لمشروع سعيد واستعن بأهلك على اختيار من تشاركك
حياتك وانس ذكريات الماضي المريرة تماما لكي تصفو لك الحياة بعد أن عانيت ما عانيت
فيها , فمن الوفاق النفسي تقبل الماضي بكل ما فيه سواء تعلق بأخطاء الآخرين في
حقنا عن عمد أو عن غفلة أو تعلق بأخطائنا نحن تجاههم , كما أنه من تمام الصحة
النفسية أيضا تقبل خصائصنا الجسمية التي لا حيلة لنا فيها كالمظهر والحجم واللون
والتوافق معها لكيلا نحس أننا مختلفون عن الآخرين .. فمن الإحساس المتعاظم
بالاختلاف عن الآخرين تبدأ الحساسية وتتعقد الحياة .. وأنت والحمد لله تتفهم ذلك
جيدا وتعيه وتعمل به .. فلماذا تعتبر سؤال أهلك لك عن مشروعاتك للزواج جارحا وهم
لا يقصدون به إلا الاطمئنان عليك وطلب سعادتك الشخصية ؟ كما أنه هم دائم يشغل
الآباء والأمهات على أبنائهم الطيبين من أمثالك .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر