دائرة اللهب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
شجعني على الكتابة إليك ما
ألمسه من صدق الناس معك ومن صدقك معهم فأردت أن أكون أنا أيضا صادقا مع نفسي ومعك
ولو مرة واحدة قبل أن ألقي ربي .
منذ 25 عاما تزوجتها .. وكنت
أراها جميلة ندية وأنجبنا الأطفال الأبرياء , وكان ينبغي لنا أن نسعد بنعمة الشباب
والصحة والأبناء والمركز اللائق في المجتمع , لكن السنوات مرت مريرة تحملت فيها
الكثير من البذاءة وسوء الخلق والطمع وانتهت الرحلة الفاشلة وأبناؤنا على مشارف
الجامعة بمأساة أخلاقية .. فبعد أن مضى سن الشباب توهمت زوجتي أنها ما زالت شابة
وحلمت مرة أخرى وتراهقت وتصابت .. و .. فطلقتها فسرقتني ! نعم سرقتني ونقلت كل ما
كان في مسكني خلال ساعة واحدة إلى شقة جديدة أعدتها مع شريكها لتتزوجه فيها .
وتركت لي الشقة خاوية من كل شئ
إلا من أولادها وأولادي .. وتزوجها الرجل الآخر ودفعته بدوره لأن ينقل هو أيضا كل
محتويات بيته إلى الشقة الجديدة , ففعل وترك وراءه أبناء ماتت أمهم منذ سنوات
فأصبحوا بعد زواجه الجديد يتامى الأبوين .. فقد تركهم بلا شئ وقطع عنهم بعد قليل
المال .. وانقطع عن متابعتهم ورعايتهم كأب ورغم ذلك لم ينقطعوا عن الدراسة ولم
يفشلوا ونجحوا جميعا ولكن بلا تفوق .. ثم جاءوا إلي يشكون لي مما فعلته بهم زوجة
أبيهم ويلومونني بشدة أن تركتها له , وتكرر التقائي بهم وفي كل مرة يجيئون بفكرة
يحاولون بها أن يرجع أبوهم عن غيه , فأنصحهم بالتعقل والصبر.
ثم شاءت الصدفة أن يلتقي
"الضحايا" كلهم في مكان واحد أولادي وأولاده .. فجمعت بينهم المأساة
والمعاناة وحمل كل فريق الأم والأب مسئولية معاناته .
وأولادي يتأثرون بأمهم وهذا أمر
طبيعي وبعد كل مرة يلتقون فيها معها يرجعون للبيت متغيري الوجوه والمزاج , وأبذل
مجهودا كبيرا لأعيدهم إلى حالتهم الطبيعية إلى أن يرجعوا لزيارتها مرة أخرى فتتكرر
القصة بنفس تفاصيلها .. ولست أشكو من ذلك فهذا قدري , وسوف أتحمل من أجل أبنائي
كما تحملت أمهم سنوات طويلة من أجلهم أيضا وهم على أية حال أفضل حالا من أبناء
الرجل الآخر لأنهم يجدونني إلى جوارهم ولا يقاسون إلا آلام فراق أمهم لهم .. في
حين لا يجد أبناؤه أباهم ولا أمهم وتمزقوا بين الأقارب والجيران والشرطة ومحاضر
اعتداء الأب وزوجته عليهم ومشاكل العدالة البطيئة .. إلخ
ومشكلتي يا سيدي هي أن هذه
القضية تسيطر على تفكيري ليلا ونهارا منذ عام كامل وإلى الآن , وبالرغم من خبرتي
وسني إلا إني أضبط نفسي أحيانا متلبسا بالتفكير في ضرورة الانتقام لشرفي ثم
لأولادي .. ثم لما سرق مني أيضا .. وأظل ليالي طويلة أفكر وأخطط ثم أفيق لنفسي
وأزيح هذه الأفكار السوداء بعيدا عني .. فأنساها ويهديني الله بضعة أيام .. ثم
تعود نفس الأفكار تسيطر علي من جديد فأجاهد نفسي مرة أخرى وهكذا بلا نهاية .
إننى أبذل مجهودا شاقا ومستمرا
في إقناع أولادي بأخطاء أمهم مجهودا شاقا يهزون رؤوسهم بالموافقة على كلامي لكي
انتهى منه بسرعه , لكنها بالطبع أمهم وهم يحبونها ولو كانت خاطئة .. أما ما يزعجني
حقا فهو أن ابنتي ترى في أمها مثلا أعلى لها في كل شئ , وليس يهمني في ذلك تقليد الحركة
أو الملابس أو الطريقة .. وإنما الذي يهمني هو ألا تقلدها في التفكير , فترى كما
ترى أمها أن ما فعتله هو شئ طبيعي تماما .
إنني لست حزينا على هذه الزوجة
السابقة , ولم أخسر بفقدانها شيئا , فلقد تحملتها وتحملت جنونها وعقدها النفسية
واختلاف المستوى الاجتماعي والثقافي وضعف تدينها , لأنها قدري وأم أولادي وتطلعت
دائما إلى الله بالأمل في أن يهديها أو يخلصني من عذابها فأراحني منها وهداها إلى
طريقها الجديد ولعل الله له حكمة في ذلك , لكن خسارتي الحقيقية هي في تمزق مشاعر
أولادي بين مصدق ومكذب وبين ما يسمعون مني وما يسمعون منها خاصة وأنهم لم يدركوا
بعد الكثير من الأحداث , أما خسارتي المادية فما أتفهها رغم ضخامتها بالقياس لهذه
الخسارة النفسية الجسيمة .
ولقد كتبت رسالتي هذه لأولادي
لكيلا يروني بعد أن يكبروا ظالما .. وأكتبها لقرائك وقارئاتك الكثيرات لترى
الزوجات اللاتي مللن الحياة الزوجية وتطلعن إلى ما فوق قدرة الزوج وللسيدات اللاتي
يواجهن متاعب سن الأربعين وما تحمله لهن من تغيرات لأقول لهن أنهن إذا احترسن لذلك
وتمسكن بالعقل والدين فلسوف تمر عليهن هذه الفترة الحرجة في أمان وهدوء أما إذا
تركن أنفسهن لرغباتهن ونزواتهن فلسوف يتحولن إلى أضحوكة تثير الاشمئزاز .. كما
أكتب رسالتي أيضا للأزواج العقلاء الذين يتميزون بالأناة والصبر إلى حد البرود ,
وأيضا للأزواج الذين قد يلاحظون جيدا ما يجري حولهم حتى لا يبالغوا في تقدير
قدراتهم على التحمل واللامبالاة فيصلوا
إلى نقطة اللاعودة مع زوجاتهم بعد أن تكون فرص الاصلاح أو التقارب قد فاتت للأبد .
كما أكتبها أيضا لأبنائي الذين
سيتزوجون ذات يوم لكي يعرفوا ويؤمنوا بأن اختلاف المستوى الاجتماعي والثقافي بين
الزوجين خطير فلا يتزوجوا ممن هن أو هم أقل منهم بكثير أو أعلى منهم بكثير , لأن
هذا الاختلاف سوف يؤدي حتما للتأثير على أولادهم وسيعانون هم أيضا منه الكثير بعد
أن يضيع الحب والتفاهم والسعادة ولن يدركوا أهمية ذلك إلا بعد فوات العمر وشيب
الشعر وتساقط الأسنان .. حين يفتحون أيديهم فلا يجدون فيها سوى العدم وحصاد ذكريات
المرارة والندم لأنهم عاشوا سنوات صعبة تعيسة ولم يتخذوا قرارا قويا أو جريئا خوفا
على أولادهم أو خوفا من نظرة المجتمع لمن يطلق زوجته أو ينفصل عنها ويتزوج من أخرى
ويريح نفسه في سنواته القليلة الباقية بعد استحال الاستمرار أو الإصلاح .
أما نصيحتي للجميع .. فهي أن
عمل المرأة واجب ومطلوب .. ولكن للضرورة فقط ولمن تصلح له وليس تحت ستار إثبات
الذات أو شغل أوقات الفراغ , لأن ذلك متاح لمن تريد بطرق أخرى وحتى لا يكون العمل
ستارا لأشياء أخرى .
ولست أسئ بكلماتي هذه لأحد فإني
أرى سيدات فاضلات بعدد نجوم السماء يعملن في مجالات عديدة وفي كل مكان , كلهن
مكافحات محترمات تستحق كل منهن وساما عما تفعله , لكن حظي أنا الذي كان مختلفا ,
فكانت من قسمتي ونصيبي سيدة مختلفة .. فلا حول ولا قوة إلا بالله وأرجو وأتمنى لكل
زوجة أن تخلص لزوجها وأن تسعده ولكل زوج أن يخلص لزوجته ويسعدها وأن يتحمل كل طرف
هنات الآخر وأن يكون حريصا عليه وعلى أولاده .
لقد كتبت لك مخلصا وصادقا يا
سيدي وراعيت ضميري وربي فيما كتبت ولم أظلمها ولم أنسب لنفسي فضلا , وسوف تمر
السنوات ويحكم أولادي على ما فعلت ثم أقابل ربي ليحاسبني عن كل شئ وليرحمنا الله
جميعا .. والسلام .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
ولـــكـــاتـــب هـــذه الــرســالــة أقـــــول:
هناك كلمة من الفلسفة الصينية
القديمة تقول : أفرغ نفسك .. تمتلئ .. أي
أفرغ عقلك من الأفكار السوداء تجد الأفكار الخيرة لنفسها مكانا فيه .. وأفرغ قلبك
من الذكريات المريرة المؤلمة تتسلل إليه برفق الذكريات الطيبة , ويتفتح للحياة
والناس , وخبرة الألم تُشترى بثمن فادح من صحة الإنسان وسلامه النفسي ومن أهم ما
نتعلمه منها أن خير ما نفعل حين تمتحننا الحياة باختباراتها القاسية , هو أن نتقبل
الحقائق المريرة التي لا نملك لها دفعا ونتواءم معها ونحاول بقدر الإمكان أن نقلل
من خسائرنا فيها .
أما من أساءوا إلينا .. فإن خير
ما نعاقبهم به هو أن نسقطهم من حياتنا تماما ونكف عن الانشغال بهم أو التفكير في
الانتقام منهم أو الإساءة لهم .. إذ لماذا نفعل , وفي السماء حكم عدل لا يفلت أحد
من حسابه , وسيحكم بيننا وبينهم بالحق يوم يكون الحساب .. ولماذا نبدد الوقت
والجهد والصحة في الإساءة لهم والانتقام منهم , وفي "أخلاقهم" هم أنفسهم
الكفاية وما هو فوق الكفاية لتقودهم إلى المهالك .. فنرى فيهم بعد حين ثأر السماء
لنا بلا جهد ولا عناء من جانبنا ؟
إن نصيحتي لك يا سيدي هي أن
"تفرغ" نفسك تماما من الرغبة في الإنتقام من الطرفين وألا تستسلم لهذه
الأفكار السوداء فتبدد ما بقي من سلامك وأنت في أمس الحاجة إلى التخفف من الأحزان
, وفي هذا المجال فإني أرى أن علاقتك بأبناء الرجل الآخر "ونصائحك لهم غير
مفمومة , وليست ضرورية" كما أنها بغير شك من أسباب استمرار التوتر واشتعال
الخصومة بين الفريقين ولا عائد لها في النهاية إلا إزدياد وارد الجحيم الذي تعيش
فيه , لأن محاولات ازعاج حياة الطرف الآخر عن طريق أبناء الزوج , تستثير بالضرورة
المقاومة ومحاولات إزعاج حياتك أنت عن طريق أبنائك .
ولهذا السبب فأنت تبذل جهدا
كبيرا لإعادة أبنائك إلى حالتهم الطبيعية كلما إلتقوا بأمهم .. وتبذل جهدا مضاعفا
لإقناعهم بأخطاء أمهم وتتألم كأب تحمل الكثير من أجلهم , حين تراهم يهزون الرؤوس
استعجالا لإنهاء الحديث .. وتتعذب أكثر بحيرة أبنائك وتمزقهم بين ما يسمعون وما
يصدقون .. وهذا رافد آخر من روافد الجحيم يغذي نيرانه بصفقة مستمرة , فلماذا
نتحالف مع آلامنا على أنفسنا ؟ّ!
إنك لست مطالبا بشرح أخطاء الأم
لأبنائها وهم في سن الشباب ولهم عقولهم وأفكارهم ومحكمتهم التي لا تتأثر بمبررات
الدفاع والاتهام بقدر ما تتأثر بالواقع الحي الذي يعيشونه والآلام النفسية التي يكابدونها
والثمن الغالي الذي يدفعونه من استقرارهم ومستقبلهم ومظهرهم الاجتماعي , ولو انصفت
نفسك لتعففت عن الاستمرار في شرح أخطاء الأم لأبنائها ولاعتمدت على حسهم الصادق
الذي يهديهم لإدراك أن من يتعفف عن النيل من أمهم حتى وإن أجرمت في حقه وحقهم لا
يمكن أن يكون جديرا بما يقال عنه من أي طرف آخر , لأنه إنسان شريف في خصومته يدخل
همه على نفسه ويشفق على أبنائه من أن يشقيهم به , ثم ماذا نستفيد نحن من استصدار
حكم من الأبناء بإدانة الأم والواقع صريح أمامهم ولا عائد لمثل هذا الحكم سوى
حرمانهم من السلام النفسي بعد أن حرموا من الاستقرار العائلي ؟ إنها حلقة مفرغة ..
وعذاب لا طائل من ورائه , واستسلامك لهذه الأفكار القهرية السوداء لا عائد له سوى
استمرار السحب مما تبقي من رصيد العمر والصحة والأعصاب.
إن سوء الحظ في الحياة الشخصية ليس مما يعيب أي
إنسان أو ينقص من جدارته واحترامه لنفسه واحترام الآخرين له , وإنما هي أقدار ومحن
يختبر لها الله جل شأنه صبرنا وصدق إيماننا وثباتنا عند الشدائد , فعش حياتك يا
سيدي كما ينبغي لمثلك أن يعيشها وبغير أن تحصرها في هذه الدائرة الضيقة التي تتلظى
بلهيبها .. والتمس السلوى والعزاء والتعويض في أبنائك وفي الأشياء الأخرى الكثيرة
التي تزخر بها الحياة .. ولسوف تداوي الأيام الجراح .. وتنطفئ نيران الجحيم
تدريجيا بتسليمك بما جرى واعتباره محنة من محن الحياة التي عرفها قبلك الكثيرون
وبإنصرافك عن التفكير في الإنتقام والمشاركة في أي جهد للإساءة لمن أساءوا إليك ,
فالنار التي لا تتلقى المزيد من قطع الخشب يخمد لهيبها بعد حين , وسوف تخمد ذات
يوم قريب وتشفى نفسك مما تجد ويعوضك الله خيرا كثيرا إن شاء الله .. والسلام .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر