نقطة التحول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

نقطة التحول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


نقطة التحول .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

أنا زوجة منذ ثمانية وعشرين سنة لرجل فاضل اعتز به وبصحبته على مدى السنين , وقد أثمر هذا الزواج إبنتين إختار الله أحداهما إلى جواره , فأصبحت الأخرى وحيدتي التي أشاركها لهوها ومذاكرتها وأحاول أن أعوضها عن فقدها لأختها , وهكذا أصبحت ابنتي الوحيدة هي شغلي الشاغل في الحياة مع زوجي وبيتي, فكنت لا أزور أحدا لكي أتفرغ لرعايتها ومصاحبتها طوال اليوم .

وواصلت هي تفوقها وتقدمها في الدراسة وأنا أشجع وأتابع وأهيئ لها كل وسائل الراحة , إلى أن حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير, والتحقت بكلية من كليات القمة , وخلال ذلك كانت تستشيرني في كل أمورها وأشير عليها دائما بالأفضل والأنفع بخبرتي في الحياة .. وتعتز دائما برأيي ثم تخرجت من كليتها بمرتبة الشرف , وجاءت الأولى على دفعتها لكنها لم تعين في الكلية للأسف, وعينت بدلا منها أخرى بالواسطة فتأزمت ابنتي وحزنا نحن لحزنها واكتئابها .. وذات يوم قالت لي فجأة أن زميلاتها قلن لها أني قد محوت شخصيتها وينتقدن استشارتها لي في كل شئ , فكانت هذه هي نقطة التحول في علاقتها بي , فلقد تغيرت منذ ذلك اليوم إلى النقيض وأصبحت تكرهني .. نعم تكرهني وتنظر إلي نظرات كلها كراهية وحقد . 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

وابتعدت عنى ابنتي , ولم تعد تستشيرني في شئ وعندما أحاول ضمها إلى صدري تهرب مني وتغلق حجرتها على نفسها وتبكي وأنا أبكي إلى جوارها .. كما أصبحت تتصرف معي تصرفات غريبة وجارحة , فإذا كان عندنا ضيوف وقلت شيئا تعمدت هي أن تحاول تكذيبي فيما أقول أمامهم , فيقتلني الحرج وكذلك الضيوف .. وإذا عاتبتها في ذلك بعد انصرافهم , نفت أنها قالت ما يبرر العتاب , وإذا سألها الضيوف عن شئ قد لا ترد فأضطر أنا للرد نيابة عنها, فتثور وتطلب مني عدم التحدث بإسمها وتتمادى في ذلك بعد انصرافهم , وهى تطالبني بعدم التدخل في حياتها بعد أن اعتبرت حبي لها "الذي لا يعلم أحد مدى عمقه إلا الله سبحانه وتعالى" تدخلا في حياتها .. بل وبلغ بها الحال أن اتهمتني ذات يوم بأني لم أفرح لنجاحها إلا لكيلا يقال فقط أننا فشلنا في تربيتها , ولأن هذا هو كل ما يهمني من أمرها ! وكذلك تقول أنني وأبوها نعيش خارج دائرة الزمن مع أننا من حملة الشهادات العليا ونشغل مراكز مرموقة في المجتمع , والكل يقولون عنا أننا عائلة محترمة ومثالية , ولقد كنت احتمل كل ذلك ولا أكف عن الأمل في أن تعود إلى طبيعتها بعد فترة , لكنني فوجئت بها يا سيدي تقرر أن تهرجنا وتعمل في بلد آخر غير الذي نقيم فيه .

حاولنا المستحيل معها لكي تعدل عن قرارها , فكان البكاء والعويل والاكتئاب , ولم نملك إلا أن نسلم لها برغبتها بعد أن أعيتنا الحيل في اقناعها .

وسافرت ابنتي إلى مقر عملها وخلا البيت علينا بعد هذه الرحلة الطويلة , فكنت لا أطيق بعدها عنا طويلا , فأسافر إليها لأراها وأرعاها في غربتها التي لا مبرر لها .. وهي لا تفكر أبدا في السفر إلينا , وفي إحدى زياراتي لها فوجئت بها تطعنني بخنجر في قلبي وتقول لي أنها لا تريدني معها , وتطلب مني تركها والسفر إلى بلدي ! فهل رأيت قسوة ابنة على أمها كهذه القسوة يا سيدي ؟ .. لقد بكيت حتى انفطر قلبي من البكاء وسافرت من عندها وأنا لا أرى الطريق وأقسمت ألا أسافر إليها مرة أخرى .. لكني حنثت في يميني وليسامحني الله في ذلك وسافرت إليها فإذا بها بعد فترة قصيرة تصفعني بنفس هذه العبارة القاسية التي تشق قلب أى أم .. فسافرت وأقسمت ألا أعود إليها لكني حنثت مرة أخرى بيمينى لأني لا أستطيع تركها وحدها.

 


 

ولــكــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول :

 

العلاقة بين الأبوين وبين الأبناء الراشدين تحتاج إلى قدر كبير من الحكمة يساعدهما على إدراك الحدود الفاصلة بين الرعايا المشروعة للأبناء , وبين الانزلاق إلى محاولة السيطرة عليهم وامتلاكهم والتحكم فيهم إلى ما لا نهاية .

وانت يا سيدتي قد أفرطت فيما يبدو فى الالتصاق بابنتك الوحيدة , بعد أن ثكلت الأخرى , وفي الغوص في حياتها إلى درجة تشابكت معها الحدود بين شخصيتك وشخصيتها لدرجة كبيرة , فوقفت حياتك عليها وأمتنعت عن الزيارات العائلية لتتفرغي كل الوقت لها , وأحطت بها من كل جانب حتى لكأنها طفلة تختبئ دائما في أحضانك .. وأشرت عليها دائما بالأنفع والأفضل , في كل أمر من أمورها , ولم تدركي للأسف أنها خلال كل ذلك كانت تنمو وتكبر وتتحول إلى فتاة شابة , ينبغي أن تكون لها شخصيتها المستقلة التي لا تتعارض مع ارتباطها بك وحبها لك , إلى أن جاءت ما أسميته نقطة التحول ..  وهي ليست نقطة تحول في الواقع , لأن التحول قد بدأ تدريجيا قبل ذلك , واستمر لوقت طويل , لكنك لم تلحظي وقتها ضيقها بتدخلك المستمر في كل شئونها , إلى حد الحديث نيابة عنها , وربما التفكير أيضا , ومن المحتمل أن تكوني قد لاحظت هذا الضيق والاحتجاج , لكنك لم تستطيعي أن تردي نفسك عما اعتدت عليه منذ سنوات طويلة , فواصلت ما بدأت إلى أن جاءت نقطة الانفجار , وهي النقطة التي يضيق فيها الاناء بما فيه من بخار مكتوم , فينفجر بلا سابق انذار , وقد ساعد على ذلك في تقديري حرمانها من وظيفة المعيدة بكليتها رغم احقيتها فيها وهي الأولى على دفعتها , واغتصاب أخرى لحقها بلا سبب سوى الواسطة , فكان ذلك بداية لاهتزاز القيم عندها واستشعارها الظلم الاجتماعي في أول تجربة لها مع الحياة العملية ومع مجتمع الكبار .. فعجل ذلك بالانفجار .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com


ورغم ذلك فلست أبرر تصرفها ولا أقبله لأن خطأ المجتمع في حقها لا يبرر جريمتها في حقك وحق أبيك , كما أن اسرافك في الالتصاق بها والرغبة في امتلاكها والسيطرة عليها , لا تبرر لها أيضا ما فعلت , ولا تعفيها من عقاب السماء لها على اساءتها معاملتك وإهانتها لك .. وطعنها لك هذه الطعنات الدامية , فهي مأمورة من خالقها بأن ترعى حقوق أبويها , وأن تحترمها وترعاهما كما ربياها صغيرة , بل وبأن تسترضيهما دائما حتى ولو ظلماها , كما جاء في مضمون الحديث الشريف .. وكراهية الابن أو الابنة للأب وللأم بالذات لها على أية حال في علم النفس دلالة سيئة ترشح صاحبها لأسوأ العواقب التي قد تصل به إلى حد المرض بالفصام العقلي .. هذا إن لم يرحمه ربه ويعيد إليه رشده .. ويهديه سواء السبيل , فيطهر هو قلبه وصدره من هذا الاحساس الآثم ويهرع نادما طالبا عفوهما وصفحهما .

وصحيح أنه إحساس قاس على القلب والنفس , أن تشعر أى أم  إنها مرفوضه من ابنتها , خاصة إذا كانت وحيدتها التي تفانت في حبها ورعايتها , لكن ذلك لا يبرر لك أبدا يا سيدتي أن تستجدي حبها وعطفها بهذه الطريقة التي لا تتناسب مع حقك عليها كأم .. بل إن كل حبك لها لا يجوز أبدا أن يكون شفيعا لك في قبولك لمهانة أن ترفضك ابنتك الآثمة مرة فتعودين إليها حانثة بقسمك ألا تعودي فترفضك مرة ثانية وثالثة .. فتعودين وتكتبين لها هذه الرسالة التي تطلبين مني نشرها لها .. لا يا سيدتي لن أنشرها .. وأرجو ألا تغضبي لذلك , فالحق أني لا أرضى لك أبدا أن تستجدي ابنتك حبها ومودتها بمثل هذه الكلمات الذليلة , في حين أنها الأحق أن توجه إليك أنت مثل هذه الرسالة .. ثم كيف يستشعر المخطئ خطأه ويرجع عنه إذا كنا نكافئه على عقوقه وجحوده لحقنا عليه بمزيد من الحب ومزيد من الاستعطاف ؟ .. لا يا سيدتي ليس هكذا تستردين ابنتك الجامحة لفضلك وفضل أبيها عليها وإنما تستردينها حين يأذن الله بالهداية لنفسها الضالة .. وبعد أن تحتسبيها كما احتسبها زوجك عند المطلع على السرائر .. ومن لا تضيع عنده الودائع , ثم تغالبي نفسك وترديها عن أي محاولة للاتصال بها أو إقناعها بالزواج ممن ترضون عنه أو بغيره , وتدعوها لنفسها فترة طويلة كافية تعرف هي خلالها بالتجربة وبمطحنة الأيام الدائرة أننا لسنا أعزاء على أحد سوى على من كنا نضيق بحبهم الزائد لنا , وأنها لا قيمة لها في الحياة إلا بانتسابها لأبوين فاضلين مثلكما , وأنها وحيدة تماما في بحر الحياة الواسع الذي تتلاطم أمواجه , ويلوذ فيه كل عاقل بمن يحبه بإخلاص ويفتديه.

دعيها لنفسها يا سيدتي بعض الوقت .. فهي تعاني من مراهقة فكرية شبيهة بمراهقة "الدول" حديثة الاستقلال , التي تستشعر الاعتداء على "إرادتها الوطنية" في كل نصيحة ولو كانت مخلصة إذا جاءتها ممن "تحررت" حديثا من سيطرتهم السابقة وهي فترة لا تطول ثم يأتي بعدها النضج .. ومعه الندم .. فإن لم يجئ لا هذا ولا ذاك , وأرجو ألا يحدث ذلك , فأي حكمة في أن يأسى الإنسان على من يقابل إحسانه إليه بالإساءة .. وحبه له بالطرد والإهانة ؟!

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات