الطعنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا شاب في السابعة والثلاثين
من العمر .. تخرجت في كليتي وسافرت إلى إحدى الدول العربية وعملت بها ووفقني الله
في عملي وفي كفاحي , وظللت حتى بلغت الرابعة والثلاثين بلا ارتباط عاطفي , ثم عدت
لمصر في إجازة لمدة شهرين وكل ما يشغلني هو أن أرتبط بمن يجمع الله بيني وبينها في
حياة واحدة قبل أن تتأخر بي السن .. وذهبت ذات يوم إلى المدرسة الخاصة التي تدرس
بها إبنة أختي لإحضارها منها فشاهدت فتاة أعجبت بها ورأيت فيها فتاة أحلامي
واستطعت بأسلوب مهذب رقيق أن أتحدث إليها وأجتذبها إلى التعرف علي وتعددت اللقاءات
بيننا ووجدت فيها ضالتي المناسبة تماما لي .. فهي خريجة كلية جامعية مشابهة في نوع
الدراسة للكلية التي تخرجت فيها .. كما أن عمرها مناسب إذ كانت تقترب من السابعة
والعشرين حين التقيت بها .. وعرضت الأمر على أمي وأبي وأختي ورحبوا باختياري
وتوجهنا إلى بيت أسرتها وبعد قليل عقدت قراني عليها وسعدت بها وسعدت بي كثيرا .
وانتهت أجازتي وعدت لمقر عملي .. وانتهى عقدي هناك بعد قليل فعدت لبلدي بعد 9
سنوات من الغربة واخترت العمل الحر فافتتحت مكتبا صغيرا لأعمال المقاولات وتزوجت
ورضيت عن حياتي وعن عملي الحر .. ولاحظت سعادة زوجتي بي واحترامها لي وشكرت ربي
على نعمته , ثم حملت زوجتي وانجبت طفلتنا الصغيرة الجميلة لكن بعد ثلاثة شهور فقط
من مولد إبنتي دبت بعض الخلافات الصغيرة المعتادة بيني وبين زوجتي فكنت أتجاوز
عنها وأقابلها بصدر رحب , إلى أن نشب خلاف بسيط بيني وبين زوجتي ذات يوم بسبب
ذهابي لأبي .. فقد كنت أذهب إليه مرتين كل أسبوع لأطمئن عليه وأسليه في وحدته بعد
وفاة أمي رحمها الله حيث أنه أصبح يعيش وحيدا بعد رحلة كفاح طويلة أكمل خلالها
رسالته على أكمل وجه مع 6 من الأبناء لا يعيش بالقرب منه منهم سواي وسوى أختي ..
في حين يعمل الآخرون في الدول العربية وأمريكا.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني
لعبد الوهاب مطاوع"
وبسبب هذا الخلاف البسيط تركت زوجتي عش الزوجية
إلى بيت أهلها وعدت إلى بيتي فلم أجدها .. فحزنت وأسفت لتصرفها هذا وتركتها في بيت
أسرتها أسبوعيا , ثم وجدت نفسي أتوجه تلقائيا إلى بيتها وصورة إبنتي الوليدة تملأ
خيالي وتناديني بأن أنهي الخلاف البسيط وأعيد زوجتي وإبنتي لبيتي .. وذهبت بالفعل
وطرقت الباب ودخلت لأجد أباها وشقيقها الصغير ومعهما شاب ملتح في الثلاثين تقريبا
يرتدي الجلباب فوق البنطلون وفوجئت بعد قليل بأن عرفت أنه شقيق آخر لزوجتي لم أره
ولم أسمع عن وجوده ولم تشر إليه زوجتي في أحاديثها معي من قبل .. وطرح الخلاف
البسيط للنقاش فوجدته يتكلم بصوت عال وبعصبية شديدة ووجهه كله اصفرار وعروق رقَبته
بارزة ويوجه إلي انتقادات عنيفة بعضها للدهشة "دينية" .. فاستأت منه
ونصحته بأن يستذكر دروسه أفضل إن كان طالبا لأني لا أعرفه وتركته ودخلت إلى الحجرة
الداخلية التي تنام بها طفلتي والتي استيقظت على صوته المرتفع العصبي فجاء خلفي
وهو يطلب مني أن أتكلم معه لأنه المسئول عن كل شئ في الأسرة فأجبته بأني لم أضع
يدي في يده , ولو رأيته وتعاملت معه قبل الزواج بهذه الطريقة لما تزوجت أخته
وأعطيته ظهري وحملت إبنتي الصغيرة التي حرمت منها أسبوعا كاملا وقبلتها ففوجئت به
يجذبني إليه وأنا أحمل إبنتي ويطعنني بمطواة في صدري وبطني فوقعت إبنتي من يدي إلى
السرير واستدرت إليه واستجمعت كل قواي لأمسك به وأمسكته فطعنني في يدي طعنة أخرى
وفر هاربا من شرفة الغرفة .. وخرجت فلم أجد الأب والشقيق بالشقة وتحاملت على نفسي
وتوجهت إلى مستشفي أم المصريين القريب .. وتم إجراء عملية استكشاف لي ثم تم
استئصال جزء من المعدة , وجاءت الشرطة والنيابة وتم عمل اللازم للمعتوه الهارب
ووجهت له النيابة تهمة الشروع في قتلي , لكنه مازال هاربا حتى الآن.
وأمضيت في المستشفى شهرا تجرعت
خلاله كل أنواع العذاب وكان طعامي في معظمه مجرد سوائل .. ولم تحضر زوجتي الفاضلة
لتطمئن على زوجها أو والد طفلتها , الذي طعنه شقيقها غدرا وعدوانا.
ولـــكــاتــب هــذه الـرســالـة أقــول:
بعض مواقف الحياة لا تتيح
للإنسان مجالا للتردد بين اختيارات مختلفة يتجاذبه كل منها بإيجابياته وسلبياته .
وانت يا صديقي أمام موقف من هذه
المواقف شبه المحسومة قبل الاختيار , وبالتالي فلا مفر أمامك من الاستجابة لطلب
زوجتك بالطلاق , وبدء حياة جديدة تضمد فيها جراحك العضوية والمعنوية وتحتسب كل ما
جرى لك عند المنتقم الجبار الذي لا ينجو ظالم من عقابه في الدنيا وفي الآخرة , ثم
ترتب حياتك بعد ذلك على أن ترى ابنتك في مواعيد منتظمة بالطرق القانونية المألوفة
وتفي لها بحقوقها المادية إلى أن تبلغ سن انتهاء الحضانة وتضمها إلى بيتك وأسرتك ..
ولك من شبابك ما يعينك على أن تبدأ من جديد وأن تستعيد عملك وقدرتك على العمل
والكفاح لإعادة بناء ما هدمه الطيش والعنف الأعمى الذي أعجب كيف أصبح لغة تفاهم
عند البعض بدلا من الحوار والجدال بالحكمة والموعظة الحسنة ؟
إن أغلب ظني أن شقيق زوجتك هذا
الذي أخفوا أمره عنك قبل زواجك كان نزيلا بأحد السجون في جريمة مماثلة .. وتكتموا
أمره حتى لا تسئ الحكم عليهم وتتخوف منهم .. ثم شاء سوء الطالع أن تلتقي به
وتتصادم معه فيمارس معك عنفه الوحشي بلا مقدمات .. والعنف من ظواهر الحياة السلبية
في كل زمان ومكان .. لكن العجيب حقا هو اصرار بعض حملة المطاوي ومرضى جنون العظمة والتسلط
على الآخرين من أمثال هذا الشقيق على أن يكون لعفنهم مظهر ديني بالاصرار على
اللحية والجلباب ولو ارتدوا الجيبنز والتي شيرت والصديريات الجلدية التي بلا أكمام
وكسوا أذرعتهم "بالدراعات" السوداء كما يفعل أمثالهم من هواة العنف في أوروبا وأمريكا .. لكانوا أكثر
منطقية مع أنفسهم ومع ميولهم العدوانية الشرسة , ولحسب عنفهم عليهم وحدهم كما يحسب
على أمثالهم في المجتمعات الأخرى , لكنهم يأبون إلا أن تحسب جرائمهم عند البعض على
دينهم الذي هو دين الرحمة والتسامح ونبذ العنف والإيذاء , بالاصرار على اللحية
والجلباب مع أنهما في حد ذاتهما لا يعنيان وحدهما شيئا وقد يجتمع فيهما الصالح
والطالح والتقي .. والفاجر.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني
لعبد الوهاب مطاوع"
وكان الإمام الغزالي يقول في
هذا المعنى : قرأت في بعض الكتب .. لا تغرنكم اللحى فإن التيس أيضا له لحية ..
ولحية هذا المعتوه الذي طعنك وأنت تحمل طفلتك الوليدة من هذا النوع ولا أريد أن
أستطرد في هذا الحديث حتى لا أبتعد عن مشكلتك الأساسية .. وإنما أقول لك أنه لا
خيار لك يا صديقي في أن تطوي هذه الصفحة الدامية من حياتك بعد ما جرى وأصبح من المتعذر
حالياَ على الأقل أن تعود المياه إلى مجاريها بينك وبين زوجتك , والحق إني لا أرى
لك أن تستجيب لطلبها بالطلاق لمجرد أن شقيقا معتوها لها قد طعنك وكبدك كل هذه
الآلام والخسائر المعنوية والمادية , وإنما أيضا لأنها قد طعنتك هي الأخرى طعنة لا
تقل أثرا عن طعنة شقيقها لك حين تخلت عنك في ضعفك ولم تزرك في المستشفي .. ولم تأس
جراحك .. ولم تساندك في محنتك , ولو كانت قد فعلت لتغير الموقف كثيرا ولبرأت جراحك
أسرع ولساعدتك على النسيان والاحتساب لكنها لم تفعل .. وهي بذلك قد اختارت الفراق
النهائي وأصرت عليه فسرحها بإحسان .. وانتظر تعويض السماء لك عما لقيت من سوء الحظ
والنكران ولابد أن يأتيك حظك العادل غدا وخلال وقت قريب إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يونيو
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر