العنوان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

العنوان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


العنوان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

  

أنا سيدة من قراء بابك المريح الذي أتابعه باهتمام وتجدد أحزاني بعض قصصه فاتذكر ما عانيته في حياتي وأتذكر أنني من هذا النوع من الناس الذين فرضت عليهم الحياة منذ طفولتهم اليتم المعنوي بالرغم من وجود الأبوين على قيد الحياة .

فحين كان عمري ستة شهور انفصل أبي عن أمي بالطلاق وبعد قليل تزوجت أمي من آخر, وفقد أبي صوابه فحملني وأنا طفلة رضيعة وتوجه بي إلى ملجأ من ملاجئ الأيتام عازما أن يودعني فيه ليتخلص من مسئوليتي ويستطيع أن يتزوج من جديد .. وكان مقدرا لي أن أنشأ بين جدران هذا الملجأ لولا أن تنبه أحد أعمامي لما يريد أبي أن يفعل بي .. وطارده في الشارع وانتزعني منه بالقوة بل وضربه حين قاومه .. ثم اصطحبني إلى بيت جدي وجدتي فربياني ونشأت بينهما وبين أعمامي .. وواجهت الحياة بغصة في القلب أحسست بها منذ طفولتي المبكرة .. وقصتي تروى أمامي من حين لآخر .. فأعرف أن أبي أراد لي أن أنشأ كطفلة محرومة في الملجأ .. وأن عمي هو الذي أنقذني من هذا المصير.

وحين بلغت سن الحادية عشرة من عمري توفيت جدتي رحمها الله وافتقدت حنانها وعطفها وأصبحت يتيمة قولا وعملا ووجدتني في هذه السن الصغيرة ربة بيت صغيرة مسئولة عن شئون البيت وعن جدي وأقوم بالواجبات المنزلية كلها واستذكر دروسي, ثم ثقلت الوحدة على جدى فانتقلنا للإقامة مع أحد أعمامي وأسرته في بيت قديم يملكه جدي وهناك عرفت إلى جانب الحرمان مهانة الذل ومرارة الاحساس بأني عبء ثقيل غير مرغوب فيه .. وكان لهم الحق في ذلك فالأبوان على قيد الحياة والأم لها بيتها وأولادها وزوجها بل ومالها الذي تستثمره في تجارة صغيرة مع زوجها ولا يراودها الحنين أبدا إلى رؤية ابنتها التي أنجبتها, والأب يعيش حياته طولا وعرضا ولا يحمل لشئ هما ويتزوج هذه ويطلقها ثم يتزوج غيرها ويعاني من الأزمات المالية بإستمرار بسبب ما يتكبده من نفقة ومؤخر صداق والاثنان نسيا تماما الطفلة التي أنجباها وتحمل غيرها مسئوليتها بلا مرتب سوى طعامها ومبيتها إلى جوار جدها في سريره , فكنت أتولى نظافة البيت الكبير ورعاية الصغار وأعاني كل صور الذل والهوان والضرب المستمر والسخرية والطرد عند أول هفوه ومنها تلك المرة التي تلقيت فيها صفعة لم  أعد أذكرها وفوجئت بعمي يطردني من البيت بسببها في نفس اللحظة التي انطلق فيها مدفع الافطار فخرجت أبكي وأنا صائمة ووجدت الشارع ساكنا لا أحد فيه والجميع في بيوتهم يفطرون وتوجهت إلى بيت عمي الذي أنقذني من مصير الملجأ وكان جدي عنده في تلك الأيام فغضب لذلك كثيرا واصطحبني بعد الإفطار مع جدي ليعيداني لبيت عمي الآخر الذي أصر على رفضي وقام ليضربني فارتمى جدي علي ليحول بينه وبيني وهو يقول له اضربني أنا ولا تضرب هذه "اليتيمة" التي لا أب لها ولا أم وانتهت هذه الأزمة كما انتهى غيرها , وعدت لمواصلة حياتي في بيت عمي وأسرته.

 

ورغم قسوة الذكريات فو الله ما كرهت عمي ولا زوجته يوما وما حملت لهما إلا الحب والعرفان لما تحملاه من مسئوليتي التي تخلى عنها أبي وأمي بل وكثيرا ما التمست لهما العذر في بعض التصرفات.

ثم مضت الأيام بخيرها وشرها وأستقر أبي في بلدتنا الصغيرة التي هجرها حين جئت للإقامة مع عمي وتزوج مرة ثالثة أو رابعة وأنجب أطفالا ونسى تماما أن له ابنة تعيش في بيت أخيه .. وواصلت تعليمي حتى حصلت على شهادة من معهد فوق المتوسط ثم ظهر في حياتي زوجي الحبيب وهو ابن عمي وكان يحمل شهادة متوسطة حين ارتبطت حياتي به وزففت إليه في شقة صغيرة من غرفتين ليس فيها سوى سرير صغير تبرعت لنا به عمتي لكن الحب يملأها ويحيل فراغها إلى قصر فاخر .. وكان مجرد وجودي في شقة عارية من الأثاث لها باب وحوائط ولا يهددني فيها أحد بالطرد والضرب نعمة كبرى أسجد لله شكرا عليها كل يوم .. ووقفت إلى جوار زوجي الطيب الحنون أدفعه إلى الامام لكي يستكمل دراسته عن طريق الانتساب لإحدى كليات الحقوق وانتسبت أنا أيضا لكلية جامعية لنرفع من مستوانا معا ورحنا نعمل ونكافح ونوفر من مرتبنا القليل لنفرش شقتنا وكلما توفر لنا مبلغ صغير اشترينا به قطعة أثاث جديدة وكلما ضممنا إلى عشنا شيئا جديدا سعدنا به سعادة لا توصف حتى أصبح لدينا شقة أنيقة مؤثثة أثاثا جميلا وعوضنا الله عن كفاحنا وصبرنا معا وصبري على ظروف حياتي.

فبدأنا نجني ثمار الكفاح وحصل زوجي على ليسانس الحقوق وأصبح محاميا والحمد لله ووصلت أنا بتوفيق الله وفضله إلى السنة النهائية بكليتي الجامعية وسوف أحصل على شهادتي هذا العام بإذن الله ويتحسن وضعي الوظيفي .. وأنجبت طفلين عاهدت الله حين سمعت صراخ أولهما وهو يأتي من عالم الغيب ألا أقصر في حقهما علي أبدأ وأن أتحمل كل شئ في الحياة لرعايتهما وتربيتهما على الحب والحنان .. وازداد عجبي حين عرفت طعم الأمومة عن أمي التي لم تسع يوما لأن تطمئن علي أو ترعاني أو تسألني عما بى بالرغم من أنها تاجرة وميسورة بل كنت أنا التي أسعى إليها حين تشتد معاناتي فأهرب من المدرسة وأسأل عن عنوانها وأعاتبها باكية لأنها لا تسأل عني فتسألني عن "العنوان" الذي أقيم فيه "هذه الأيام" عند عمي أو عند عمتي أو عند جدي لكي تزورني وتطمئن علي وأعطيه لها فتمضي الشهور وأكرر الهروب والعتاب فتكرر السؤال عن العنوان وتأخذه ولا تسأل عني.

 

 أما بعد أن تزوجت وأنجبت فقد ذهبت إليها مرة وأنا في أشد حالات الضيق والاحتياج المادي بعد إنجاب طفلي الأول ولم يكن معي سوى أجرة المواصلات وطلبت منها قرضا صغيرا لأشتري علبتي لبن لطفلي الوليد ففوجئت بها تلقي علي محاضرة في كيفية التصرف في مثل هذه الحالة وهي أن أشتري من البقال بالأجل وأدفع أول الشهر أو أقترض من جارتي أو من أم زوجي لأنها أقرب إلي من أمي، مع أن سكنها لا يبعد عن سكني سوى ساعة واحدة بالمواصلات وترعى أولادها من زوجها وتعلمهم ولا تبخل عليهم بشئ .. وكانت المرة الأولى والأخيرة التي فكرت فيها في اللجوء لها في مثل هذه الظروف ثم نسيت ما فعلت بعد شهور واشتقت كأي زوجة شابة لأن تكون لي أم تسأل عني ولو مرة واحدة في السنة أمام زوجي، فذهبت إليها وأكدت لها أني لا أريد منها سوى أن تسأل عني من حين لآخر .. فوعدتني بذلك وطلبت "العنوان" للمرة العاشرة .

ولم تأت أيضا بل وقامت سامحها الله ببيع منزل امتلكته من تجارتها إلى زوجها حتى لا أرث فيه وزعمت لي أن زوجها أرغمها على ذلك مع أني لم أنتظر منها شيئا ولم أتوقع يوما أن يصيبني من ورائها خير أبدا بعد كل ما جرى.

 

أما أبي الذي اختفى من حياتي طوال سنوات طفولتي الشقية وصباي المعذب فقد ظهر فجأة في حياتي بعد أن تزوجت وأصبح لي مسكن متواضع مستقل فقد عمل عملا إضافيا في المدينة التي أقيم فيها إلى جانب عمله الأساسي البسيط في القرية وأصبح كلما تأخر عن العودة للقرية يجئ إلى بيت "ابنته" العروس الشابة ويبيت عندها.

ولم يكن لدينا سوى سرير الزوجية فكان يبيت على الأرض , وسجل قطعة الأرض الصغيرة التي ورثها عن جدي لزوجته وأولاده منها وحرمني وهو يزورني .. وباع الجزء الأخير منها وقبض ثمنه وكان يبيت عندي على الأرض والنقود في جيبه ولا يفكر في أن يزود شقة ابنته بسرير سفري ينام عليه حين يجئ .. ورغم ذلك فقد رحبت به وفتحت له بيتي ونسيت كل ما لقيته منه وأحسنت معاملته .. ثم بدأ يطالبني بمساعدته في تربية أولاده فلم أعترض لأني أنا الذي شجعته على ذلك لكني لم أمنع نفسي من التساؤل بمرارة .. وأنا لم أكن طفلة كهؤلاء الأولاد ولا عائل لي ولا مورد ؟ ثم استغفر الله وأقدم مما تملكه يداي من ملابس وهدايا لأولاده وبناته .. ثم ازداد تردد أبي على بيتي فأصبح يقيم عندي بضعة أيام ثم يسافر للقرية ليعطي زوجته ما حصل عليه من نقود ويعود بعد يوم واحد .. وهكذا.

وبدأ زوجي يضيق بوجوده شبه الدائم معنا .. لما يسببه لنا من عناء فهو يدخن بشراهة ويظل طوال الليل يكح بطريقة مزعجة ويتأوه بصوت عال غير آبه بالنائمين إلى حد أننا نظل معظم الليل عاجزين عن النوم .. كما أنه يعود إلينا من عمله الخارجى بملابسه الملوثة بآثار العمل الذي يمارسه وبحذاء يترك بصماته على كل مكان في الشقة الصغيرة ويشغل غرفة الأطفال بصفة دائمة فنضطر لنقلهما إلى غرفتنا .




 

ولــكــاتــبـة هــذه الــرســالـة أقــول:

 

أنت محقة يا سيدتي في تساؤلاتك الحائرة واشفاقك من أن يكون مثل هذين "الأبوين" هما من عناهما الله سبحانه وتعالى بأمره لنا بالإحسان إليهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفا .. فالحق أنه حتى في مملكة الحيوان هناك فترة حضانة لا تتخلى خلالها الأمهات والآباء من الوحوش الكواسر عن صغارها وتفترس كل من يحاول الإقتراب منها .. فما بالك بوليدة تتخلى عنها أمها منذ شهورها الأولى كأنما كان قطع الحبل السري بينهما إيذانا بقطع كل ما بينهما من كل صلات الرحمة والرعاية والمسئولية إلى الأبد ؟ بل وما بالك "بأب" تخلى عن مسئوليته وأبوته تجاه طفلته حتى كاد يلقي بها لمصير مجهول لولا نخوة شقيق لم يحرمه الله ضميرا ذاكرا ؟

إنني إذا عجبت مرة من تلك الأم التي مازالت تسأل عن "العنوان" لكي تزور ابنتها زيارة لم تتحقق أبدا فإن عجبي للأب الذي يتلاشى من حياة ابنته طوال رحلة العناء ثم لا يستحي أن يعود ليلقي عليها بكلكله حتى يكاد يهدد سلامتها مع زوجها لا يقل شأنا .. فكلاهما نموذج عجيب حقا لا يعين ولده على برّه وليس غريبا منه أن يحرمك من حقك في الكبر بعد أن اغتال كل حقوقك في الصغر .. والحق أنني كدت أجيبك عن تساؤلاتك الحائرة بكلمة واحدة هي لا.

لا هذان الأبوان هما من عناهما الحق سبحانه وتعالى حين أمرنا بالوالدين احسانا 9 مرات أو تزيد في مواقع مختلفة من كتابه الحكيم , ولا ما قلت لأبيك يدخل فى باب عقوق الوالدين ويهددك بأن يعقك أبناؤك في الكبر .. ولا هما ربياك صغيرة .. ولا أمك أتمت فصالك في عامين كما أشار القرآن الكريم في حديثه عن حقوق الوالدين.

 كدت أقول لك كل ذلك لولا أننا لا نستطيع أن نستجيب لإنفعالاتنا وحدها فتنسينا ما أمرنا الله به وتغيب عنا حكمته  فقد أمرنا الله تكريما لرمز الأبوين وحرصا على استقامة الحياة واعلاء للمثل العليا الرفيعة أن نصاحب أبوينا في الدنيا معروفا حتى "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم "

والشرك بالله يا سيدتي هو أقصى حالات البعد عنه , وبهذا المعيار فإن كل ما عداه دونه وينطبق عليه الأمر الإلهى بحسن المصاحبة والنهي عن الإساءة لهذا فلا يليق بالابن أن يخرج على حدود الأدب مع أبيه أو أمه ولو كان من العصاة وإنما له فقط ألا يطيعهما في معصية وعليه أن يترفق رغم ذلك بهما ويكل أمرهما إلى خالقهما يحاسبهما عنه يوم يكون الحساب , لكن ذلك لا يعني في تقديري أن نكرم الأمهات والآباء الذين لم يحفظوا حقوق أبنائهم نفس تكريمنا لمن شقوا لرعاية الأبناء وحرموا النفس ليسعدوهم وتأخروا ليتقدموا هم .. وإنما يعني ألا نقصر في حقوقهم التي قررها لهم الخالق علينا وألا نسئ الأدب معهم .. ثم يكون لنا بعد ذلك أن نغدق من حبنا وتكريمنا على من بذروا البذور ورووا الأرض بالدم والدموع والعرق والتضحيات حتى أنبتت نبتها وأزهرت ثمارها .. فكل ما فوق الحقوق بما فيه الحب الدافق والعرفان الصادق لمثل هؤلاء الآباء والأمهات الذين أطاعوا الله ورسوله في أبنائهم وأعانوا أبناءهم بعدلهم ورحمتهم معهم على أن يبروهم .. وكل ما في مستوى الحقوق فهو لغير هؤلاء صدوعا بأوامر الله وقربى له.

وحديثك الرفيق مع أبيك في النهاية ليس عقوقا له وإنما طلب لمصلحته ومصلحة أسرتك في نفس الوقت .. ومع ذلك فالأفضل ألا تكرريه معه .. وأن تدعي الأمر كله لزوجك يصرفه بما يتوافق مع مسئوليته عن أسرته الصغيرة ويحقق صالحها ولا يتعارض مع القيم الدينية ولزوجك عليك في ذلك حق الطاعة .. وطاعتك له مقدمة على طاعتك لأبيك أو أمك مادمت في عصمته وهو راع ومسئول عن رعيته .. ولا تقبضي يدك عن مساعدة أبيك بالرغم من كل ما جناه عليك ليس فقط لأن الحديث الشريف يقول لنا " بروا أباءكم تبركم أبناؤكم" وإنما أيضا لأنك لا تتعاملين مع شخص أبيك وإنما تتعاملين مع خالقه وخالقك الذي يأمرنا بأن نؤدي حقوق أبوينا علينا ولو كانا من العصاة .. وقديما قال العظيم عمر بن الخطاب. "ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه"

"فعاقبي" أباك بحسن معاملته وبالصبر قد الاحتمال على مكارهه وبمد يد المساعدة له ولكن لا تعرضي استقرارك وسعادتك مع زوجك وأبنائك لأية متاعب من أجله أو من أجل غيره .. وشكرا لك .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات