خاتم في إصبع القلب .. بقلم عبد الواب مطاوع "كتاب خاتم في إصبع القلب"

 

خاتم في إصبع القلب

                                        خاتم في إصبع القلب

كتبت إلي تقول : أنا مهندسة من أسرة طيبة تزوجت مهندسا زميلا لي رغم تواضع أسرته, وأعددت كل شئ للزواج بنفسي من الإبرة للصاروخ كما يقولون, وسعد بي زوجي سعادة لا توصف , فأنا مرحة وجميلة و مريحة وأقوم بكل شئ في بيتي من أعمال الديكور إلى أعمال طلاء الجدران وطلاء الموبيليات إلى أعمال الكهرباء و السباكة وحياكة الملابس .. إلى الطهي ورعاية الأطفال وتنظيف البيت وغسل الملابس وكي ملابس زوجي والاهتمام بأناقته.. فضلا عن إقامة الولائم الدائمة لأصدقاء زوجي والإشراف على مذاكرة أولادي ومراقبة تحصيلهم الدراسي حتى أصبحوا والحمد لله من المتفوقين . 

ولست أقول كل ذلك لأزكي نفسي ولكن لأصور لك حياتي مع زوجي فقد كانت حياتنا هادئة وسعيدة حتى بدأت ألاحظ على زوجي اهتمامه الزائد بزميله متزوجة كانت دائما بين ضيوف بيتنا في الولائم , وكذبت نفسي في البداية لكني عثرت بين أوراقه على رسائل غرامية متبادلة بينهما .. وواجهته بما عرفت بعنف فأنكر وراوغ وتهرب وعشت في جحيم من الشك والغيرة ثلاث سنوات طويلة لم أفكر خلالها في طلب الطلاق حرصا على مصلحة أولادي إلى أن هدأت العاصفة بعض الشئ بفضل صبري وتعاطف أهله معي, وابتعدت عنه وعنا هذه السيدة المستهترة، ثم مرض زوجي مرضا طويلا .. فوقفت إلى جواره وخدمته في مرضه بإخلاص ودعوت له الله أن يحفظه لأبنائه وأسرته , واستجاب الله لدعائي فشفى من مرضه وعاد إلى عمله, فلم يمض وقت طويل حتى عاد زوجي إلى شروده القديم وراء النساء, وبدأت ألاحظ عليه مبالغته في التودد لكل صديقة أو قريبة تزورنا أو نزورها, فأحاول أن أباعد بينه وبين كل من أشك في احتمال استجابتها له, ثم أقحم زوجي على حياتنا أسرة عائلها يعمل في الخارج بصفة دائمة إلا شهرا كل سنة, وبدأ يهتم بالزوجة الوحيدة وتهتم به بالرغم من أنها أكبر منه سنا.

 

وتكررت لعبة الاستلطاف بين الطرفين وأنا أرقب ما يجري وأحترق, وتطور الأمر عند زوجي الشارد أبدا وراء النساء إلى حب جارف لها, وبدأت أقاوم وأرفض دعوتها لبيتي فبدأ يلقاها خارج البيت ويدافع عنها بأنها سيدة وحيدة تحتاج إلى خدماته. 

ووجدتني مرة أخرى وربما للمرة الرابعة خلال عشر سنوات من زواجي به أواجه الاختيار الصعب بين كرامتي وهدم بيتي والفضيحة المدوية في العائلة والعمل وبين مصلحة الأبناء واستمرار استقرار حياتهم .

 

فماذا أفعل يا سيدي وهل أصبحت "الخيانة" هي سمة هذا العصر؟ 

 

********

 

وكتبت لي زوجة أخرى تقول: أنا سيدة جميلة محجبة لم ينبض قلبي بأي عاطفة تجاه أحد طوال حياتي لأنني ادخرت كل حبي ومشاعري لمن سيجمع الله بيني وبينه, ثم تقدم لي زميل دراسة سابق يعمل في إحدى الدول العربية خلال عودته في الأجازة فقبلت خطبته ومالت إليه مشاعري, وتزوجنا وسافرت معه إلى مقر عمله وبدأت حياتي الزوجية معه فتفجرت ينابيع الحب المكبوتة في أعماقي, وأحطته بحبي ورعايتي .

وسعدت بعشرته الجميلة الهادئة وأنجبت له طفلين وأقف إلى جواره حين يعاني من متاعب العمل ثم انتقل زوجي منذ عام إلى عمل جديد وأصر عند عودتنا لبلدنا في الأجازة على أن يتركني مع أطفالي عند أهلي لفترة بحجة عدم استقرار ظروف العمل الجديد, وعاد وحده وأقام شهورا هناك حتى ألححت عليه في السفر إليه وعدت لبيتي ففوجئت بإنسان جديد غير زوجي الذي عاشرته خلال السنوات الماضية, فلقد أصبح جافا معي ومنطويا على نفسه ويعلل ذلك لي بأن ظروف العمل الجديد مرهقة, ثم فوجئت به ذات يوم يخطئ ويناديني باسم سيدة أخرى وصدمت صدمة قاسية, وبعد تفكير واجهته فإذا به يعترف لي بهدوء بأنه يحب صاحبة هذا الاسم و بأنها زميلته في العمل الجديد ومطلقة.. ثم يسألني ببراءة الأطفال : وما المانع في أن أتزوجها ونعيش كلنا معا في بيت واحد سعداء! واهتزت الأرض بي .. ودهشت حين علمت أنها على استعداد لأن تتزوجه ولكن بشرط ألا تهدم بيتي, لقد توقعت في البداية أن تكون نزوة طارئة أو عاطفة عابرة ولكن الأيام أثبتت لي عكس ذلك. 

وأنا يا سيدي إنسانة مسالمة وزوجي هو حياتي وعمري ولا أذكر أنني قد تشاجرت معه ذات مرة .. وهو حنون ولا يبخل بشئ علي أو على بيته, لكن ظهور هذه السيدة في حياتنا قد قلب كياننا رأسا على عقب, فلقد بدأ يهمل بيته ويدخل إليه مهموما ويغادره مهموما وبمجرد عودته للبيت تبدأ بيننا المشاحنات حتى قال لي صراحة : إن حب هذه السيدة أكبر منه وإنه عاجز أمامه ثم عرض علي زوجي سامحه الله ثلاثة حلول لأختار منها ما يلائمني :

الأول أن ننفصل ويتزوجها .. والثاني أن يتزوجها مع استمرار الحياة الزوجية بيننا وعدم اعتراضي على هذا الوضع بل والرضا به ، والثالث : ألا يتزوجها ونستمر في العيش في هذا الجحيم المستعر بيننا كزوجين على الورق فقط مع استمرار المشاحنات والمشاجرات.. وأنا لا أريده إلا زوجا لي وحدي يحبني وأحبه كما كنا طوال السنوات الماضية .. فماذا أفعل معه يا سيدي ؟ 

 

********

 

وكتبت لي سيدة تقول : تقدم لخطبتي مدرسي بالكلية التي كنت أدرس بها ولم أعرفه أو أحاول لفت أنظاره إلي, وإنما هو الذي اختارني بملء إرادته وعشنا فترة خطبة طويلة سعيدة كان خلالها يزهو بي بين زملائه وأصدقائه, وتزوجنا وأنجبنا طفلين جميلين, ووفرت له كل ما يحتاج إليه من هدوء وأحببته بإخلاص.

 فماذا حدث بعد ذلك يا سيدي؟ لقد هدأت عاطفته تجاهي بعد سنوات قليلة وضاق بالاستقرار والحياة العائلية الهادئة وبدأ يبحث عن الحب خارج بيته وكأن زوجته أنثى من نوع مختلف لا يصلح للحب! ولم يعد يجد وقتا كافيا لكي يقضيه معي أو يتحدث فيه إلي, ولم يعد يشركني معه في أفكاره وأحلامه أو يوجه لي كلمة حب واحدة، ثم بدأت أحس به يتسلل من الفراش معتقدا أنني نائمة ليمضي السهرة مع التليفون, ويتحدث بصوت خافت عن لهيب الحب الذي يحرقه .. فأحترق وأتساءل مقهورة .

ومن قال إنني لا أصلح للحب كتلك التي يقضي الساعات في الحديث معها خلال الليل؟ ومن قال له إنني لا أصلح إلا للخدمة وتربية الأبناء وإدارة البيت, أما الحب فشأن آخر لابد من البحث عنه.. في الخارج ؟ 

إنني بشهادة الجميع طيبة وجميلة وحسنة العشرة والخلق ولم أطمع يوما ما في مال زوجي بل أنفق دخلي الكبير عن آخره على بيتي وأولادي .. فما عذره في أن يبحث عن الحب عند غيري؟ 

إنني أناشد كل زوج ألا يستهين بمشاعر زوجته.. وألا يعرضها لمحن الشك في إخلاص زوجها لها.. وألا يتمادى في عبثه خارج بيته مطمئنا إلى صلابة أساس بيته وإلى انصراف زوجته للعناية بأولادها وبيتها فالكمال لله وحده.. وتكرار الخيانة يفقد المرأة أحيانا ثقتها في نفسها.. ويشعرها بالهوان والجدب العاطفي وبأنها ليست جديرة بالحب, فإذا التقت في مثل هذه الظروف بثعلب ناعم يهمس في أذنها بالكلام الحلو الذي لم تعد تسمعه من زوجها.. فلربما تنخدع به وتنزلق قدمها إلى الخيانة.

ثم كيف يكون موقف زوجي مني إذا ما انصرفت أنا أيضا عنه وعن أولادي وجريت وراء لعبة الحب اللذيذة التي يجري وراءها زوجي الآن ؟

 

********

ثلاث رسائل تلقيتها في أوقات متقاربة فاهتممت بها واكتأبت لها, إذ لا شئ يمس القلب كما تمسه شكوى من يحب بإخلاص من خيانة حبيبه له وغدره به , ولا أحد يستحق العطف أكثر ممن يخلص لمن لا يخلص له ويتمسك بإخلاصه له حتى النهاية, فإذا كان قد قيل قديما إنه لا شئ أضيع من وفاء يمنح لمن لا وفاء له, فإيماني دائما هو أن "كل إناء ينضح بما فيه"، وأن الخيانة جريمة أخلاقيه تسئ لفاعلها قبل أن تسئ لشريك حياته, وأن الرد على الخيانة بالخيانة ليس إلا ترديا في الهاوية التي نشكو من تردى الأعزاء فيها, وأن اعتدادنا بأنفسنا لابد أن ينأى بنا عن الرد على الخطأ بارتكاب الخطأ ليس وفاء لمن لا وفاء له.. وإنما وفاء لأنفسنا أولا واحترامنا لها وارتفاعا بها عن الدنايا.

 

فإذا كانت الزوجة الأولى تسألني متألمة.. هل أصبحت الخيانة هي سمة العصر فإنني أجيبها بأنها ليست سمة العصر ولا أي عصر وإنما هي سمة الغدر وسمة من جفت ينابيع الحب في قلوبهم .. أو توهموا الحب ثم اكتشفوا زيفه .. أو من ماتت عاطفتهم تجاه شركاء حياتهم ضحية للشقاق الطويل وإهمال رعاية الحب, أما الحب الحقيقي فهو سياج يحمي المحبين من الوقوع في الخطأ .. والاستجابة لأية غواية مهما كانت قوتها.

 

لقد ابتدع الفراعنة عادة وضع دبلة الزواج في بنصر اليد اليسرى لأنهم كما قال أحد المؤرخين كانوا يعتقدون أن في هذا الأصبع عصبا يتصل بالقلب, فكأن الزوج حين يضع خاتمه في أصبع يد حبيبته فإنما يضعه حول قلبها ويقيدها بحبه ما استمرت علاقة الزواج بينهما .. وكذلك تفعل الزوجة حين تضع خاتمها في يد زوجها .. ولقد كشف الطب فيما بعد أنه ليس في هذا الإصبع عصب يتصل بالقلب .. ومع ذلك فإن الرمز يظل قائما وصحيحا إلى ما لا نهاية.. والإخلاص هو دائما ثمن السعادة الحقيقية وضريبتها أيضا, والضمير لا يمنع الإنسان من ارتكاب الخطأ في بعض الأحيان، لكنه لا يسمح له أبدا بأن يستمتع بهذا الخطأ استمتاعا صافيا ولا بأوقاته, وإنما هي نوبات من اللذة العابرة يعقبها الألم ولوم النفس واحتقارها أيضا في كثير من الأحيان.

فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يطلب الإنسان متعة لا تورثه إلا الألم واحتقار النفس بعد حين؟

 

لقد قلت لهؤلاء الزوجات الثلاث ولغيرهن ممن يسألنني نفس أسئلتهن الحائرة : إن هبة السعادة تشترى بثمن بالغ الفداحة, ولهذا فلابد من الصبر ومغالبة النفس والكفاح الطويل لاسترداد الطائر الشارد عن عشه واستعادته إليه بالفهم لأزمته ومعاونته على استكشاف الحقيقة الغائمة أمام عينيه الآن, وهي أنه لا سعادة حقيقية إلا للمخلصين .. ولا راحة للقلب والضمير إلا في جوار من يحبنا بإخلاص وبين أبنائنا وقلت لهن أيضا. 

إن استعادة الطائر الشارد لبيته لا تتحقق بالتعالي على آلام الزوجة ومضاعفة عطائها العاطفي له ومعاملتها لزوجها الخائن كما تعامل الأم طفلها المريض حين تخصه بمزيد من الرعاية والاهتمام إلى أن يبرأ من مرضه ويسترد عافيته.

إنها مباراة مستمرة بين طرفين, وليس من الحكمة أن تتيح الزوجة لزوجها الغادر فرصته الآثمة لكي يقارن بين ما ينال منها من جفاء ونكد وشجار دائم وغضب عارم للكرامة وهجر له, وبين ما ينال من الأخرى التي اجتذبته إلى خارج عشه من دفء عاطفي ورقة في المعاملة و إشفاق عليه مما يعانيه وفهم لظروفه واستعداد لاحتمالها وللصفح عنه والصبر عليه .. فلا تكون المقارنة في النهاية إلا حطبا جديدا يضاف إلى مدفأة حبه لها فيتعالى لهيبها، ويتراقص زاهيا بانتصاره!

 

ونصيحتي الدائمة لكل زوجة تواجه هذا الموقف .. هي أن تتمسك برفض هذا الوضع رفضا صامتا بعيدا عن الانفجارات والزوابع وألا تسلم به كحقيقة واقعة في حياتها فيطمئن جانب زوجها إلى استسلامها ويتمادى في شروده, وألا تكف في الوقت نفسه عن الدفاع عن سعادتها وزوجها وبيتها ضد غازيات البيوت الآمنة وأن يكون سلاحها في كل ذلك هو محاورة ضميره ومحاولة إيقاظه من غفوته وإشعاره بمسئوليته الإنسانية عمن تحبه وتتعذب بخيانته وتصبر عليها أملا في شفائه من هذه النزوة العابرة.

وأذكر أن فنانة معروفة قد روت لي ذات يوم قصة مماثلة لهذه القصص الثلاث مع زوجها وهى تبكي متألمة, ثم سألتني أن أشير عليها بما تفعل؟ فكانت إجابتي لها في كلمات قليلة هي: لا تصادميه باستمرار.

لا تتشاجري معه كل يوم ..لا تجعلي منه خصما لك بهذه المواجهات، وإنما اجعلي منه جانيا عليك وأنت الضحية التي تتعذب بخيانته وتحبه في صمت وتتألم .. استثيري حنقه عليك وضيقه بمشاجراتك .. خاطبي فيه ضميره .. ولا تغلقي أبواب صفحك في وجهه من أجل أبنائك ومن أجلك .. فالعطف طريق الحب .. والجفاء خصمه اللدود.

لا تبكى كثيرا كلما جاء إليك ولكن دعيه يرى عيونك الحمراء من أثر البكاء الطويل في غيابه .. ثم قابليه بعطف حزين يتحول إلى سهام تشق قلبه وضميره وتوجعه وترده عما يفعل واستمعت الفنانة الشهيرة لما أشرت عليها .. وعملت به.. وكانت النتيجة طيبة والحمد لله .

 

وليس عندي وصفة أخرى لهذه الحالة للأسف إذا أرادت الزوجة أن تستعيد زوجها, أما إذا لم ترد وآثرت الثورة لكرامتها ففي الانفصال متسع للجميع وضحاياه هم الأطفال الذين يرثون الجنة! نعم .. الجنة التي طردهم منها الآباء والأمهات في الأرض حين استسلموا لأهوائهم وانفعالاتهم فادخرها الله لهم في الآخرة .. كما ادخرها أيضا للمخلصين والصابرين وأهل الوفاء.

نقلها من كتاب خاتم في إصبع القلب وراجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات