نظرة الضيق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أكتب لك هذه الرسالة بعد الفجر وأبدأ بأن أقول لك أنني شاب في
الثانية والثلاثين من عمري نشأت في أسرة طيبة مستورة .. أبي تاجر يملك محلا تجاريا
قديما ورثه عن أبيه، وتعلم في المدارس حتى حصل على الثانوية القديمة، وأمي سيدة
نالت قدرا مناسبا من التعليم .. وكانت "بنت الجيران" التي أحبها أبي حين
تفرغ للتجارة فى شبابه, لهذا فقد نشأنا في بيت هادئ يظلله الحب وكنت أنا الابن
الأكبر لهما وبعدي جاء شقيقي وأختي الوحيدة .. وعشنا حياة سعيدة لا نشكو الإملاق
ولا نحب الترف المبالغ فيه وتقدمنا جميعا في دراستنا وحصلت على بكالوريوس
التجارة من عشر سنوات وعينت موظفا بإحدى
الهيئات وبعد عامين عرض علي أبي عرضا عادلا هو أن أستقيل وأتفرغ للعمل معه ويمنحني
مرتبا يماثل ضعفي مرتبي من الوظيفة ونسبة من الأرباح وسعدت بهذا العرض واشترطت أن
يوافق عليه إخوتي حتى لا أغتصب حق أحد ورحبوا جميعا ورضى أبي عن عملي معه ..
وكافأني بزيادة مرتبي ومضت حياتنا هادئة لا ينغصها إلا اضطرار أبي أحيانا للانقطاع
عن العمل بسبب حساسية الصدر التي يعاني منها .. وشيئا فشيئا أصبحت أنا محور العمل
وقائده الحقيقي.
وبعد خمس سنوات من تفرغي
للتجارة حضرت حفل زفاف أحد أصدقائي فلفتت نظري فيه فتاة لاحظت حفاوة أسرته بأسرتها
.. وعرفت منه أنها أسرة شخص يشغل منصبا كبيرا ومن أقاربه البعيدين وازداد اهتمامي
بالفتاة وتحينت الفرص لمحادثتها وبعدها بأيام طلبت من صديقي أن يجس نبض أسرتها لأتقدم
لها فلم يتحمس وعبر عن شكه في قبولي لأن أسرتها استقراطية أبا عن جد وتهمهم بالمناصب
والألقاب البراقة .. لكني ألححت عليه وبعد أيام أبلغني أنهم لم يرفضوا ولم يقبلوا
وأن الفيصل هو إقناعي للفتاة.
فلم أدع وسيلة لاقناعها بي دون
أن أتخذها .. وسعيت للنادي الذي تذهب إليه وللبنك الذي تعمل به وافتعلت المناسبات
لدعوة أسرتها في المحلات العامة .. وفى أماكن كثيرة .. والفتاة لا ترفض ولا تقبل
وتقول أنها تدرس ! وطالت "الدراسة" وراقبني أبي بإشفاق , أما أخي الذي يليني
في السن فقد حزن لأجلي وقال لي أن أي فتاة أخرى ترحب بي , وكان شقيقي هذا بالذات
هو صديق طفولتي وصباي وكاتم أسراري ويحيطني دائما بحبه وكان في هذا الوقت يستعد
لامتحان السنة النهائية في كليته وشاء حظه أن تكون أبواب الوظائف التي كانت مفتوحة
نسبيا عند تخرجي قد بدأ إغلاقها .. فلم يجد عملا على الفور ولم يكن على استعداد
للعمل بالتجارة فراح يتقدم لكل وظيفة يقرأ إعلانا عنها.
وكل ذلك "والدراسة"
مستمرة وذهني لا يتجه لأي فتاة أخرى مع أني تعرضت لإغراءات كثيرة , وأخيرا جاء
البشير بموافقة الفتاة والأسرة وتمت الخطبة في أحد الفنادق وأنفقت عليها بسخاء كما
قدمت لها شبكة فاخرة وتقرر تأجيل الزواج عامين حتى تحصل خطيبتي على دبلوم عال تحتاج
إليه في عملها من الجامعة .. وسعدت بذلك وفرح لفرحي كل أسرتي لكن شقيقي كان لدية
ما يؤرقه فقال لي أنه يلاحظ أني أتعامل مع فتاتي وأسرتها بإحساس بالنقص تجاههم مع
أننا أسرة طيبه ومستورة وإن لم نكن ارستقراطيين .. واستأت لكلامه قليلا ثم نسيت كل
شئ .. وبدأنا نتزاور مع أسرة خطيبتي ولاحظت أننا نعلن حالة الطوارئ في بيتنا بل فى
حياتنا كلها حين تجئ أسرتها للزيارة في حين يتعاملون معنا هم بطريقة عادية حين
نزورهم .. وقد نذهب إليهم حسب موعد سابق فيفاجئنا الأب بالاعتذار واضطراه للخروج ويتركنا
في ضيافة الأم والفتاة وشقيقها الذي يتسلل بعد قليل ويخرج دون الاهتمام حتى
بالاعتذار لنا , إلى جانب ملاحظات أخرى، ومع ذلك فلقد كنت سعيدا وغرقت في حب فتاتي
وأمطرتها بالهدايا وكانت مهذبة دائما معي ولكن بلا حرارة غالبا واقترب موعد حصولها
على الدبلوم وبدأت استعد للزواج وبدأت مطالب أسرتها ترتفع إلى عنان السماء, فالشقة
لابد أن تكون في أحد أحياء ثلاثة لا رابع لها ولا تقل مساحتها عن كذا متر, والمهر
كذا .. وأنا أوافق أمام أبيها وأمها ثم أطلب من خطيبتي سرا أن تراعي ظروفي قليلا
فتقول أنها لا تهمها هذه المظهريات .. لكنها مهمة عائليا لكيلا تتزوج على مستوى
أقل من شقيقتها وبنات خالاتها وأعمامها ! وأذهب لأبي مهموما .. فلا يجد وسيلة
لإرضائي سوى الموافقة على مضض وهو يحذرني من أنني بذلك "أجور" على حق
إخوتي وخاصة أختي التي بلغت سن الزواج.
ورغم كل ذلك فلقد كنت سعيدا
وكان بيتنا سعيدا، فشقيقتي على وشك التخرج وشقيقي يعمل كل ثلاثة شهور في وظيفة
مختلفة بالقطاع الخاص وحين يتعطل يساعدني في العمل مقابل مرتب بسيط , وأمي باسمة
دائما ولا يهمها في الحياة أكثر من صحة أبي واعتدال مزاجه وسلامتنا وسعادتنا ..
وفجأة أعلن أخي أنه كان ينتظر زواجي بفارغ الصبر لكي يرتبط بمن يريد زواجها .. لكن
مشروع خطبتي قد طال وهناك "ظروف" تضطره للتعجيل بالارتباط بفتاته ..
ورغم أن الظروف المالية للتجارة لم تكن تسمح "بإخراج" أي مبلغ جديد من
رأس المال في هذا الوقت, فقد رحبت بخطبة شقيقي وتهيأنا لنعرف من هي سعيدة الحظ
التي ستفوز به فتوالت المفاجآت بلا رحمة بي بل وكأني لا أعرف شقيقي هذا ولا أخصه
بكل أسراري .. فهو يحب منذ 3 سنوات فتاة ويريد أن يتزوجها أما من هي الفتاة فهي ابنة
رجل كان يعمل موظفا بتجارة أبي وخدم أسرتنا حوالي 20 سنة ثم اعتزل العمل عندنا
وفتح له محلا صغيرا كالكشك منذ 7 أو 8 سنوات وساعده أبي في فتحه بل وأقرضه نصف
مبلغ خلو الرجل الذي دفعه فيه وهو رجل طيب فعلا
ويعامل أبي بتهيب واحترام كأنه مازال يعمل عنده حتى الآن .. وأبي يحبه، وأمها أيضا
سيدة طيبة وكثيرا ما كانت تتطوع بمساعدة أمي في أعمال البيت وفي تربيتنا ونحن صغار
وكنا نحبها لحنانها الفطري الزائد والفتاة نفسها جميلة وطيبة ومعها دبلوم وتعمل
موظفة صغيرة , لكن مستوى الأسرة كلها من الناحية الاجتماعية يعتبر بالنسبة لنا غير
مناسب .. فالأخوال والأعمام والأقارب كلهم
من الحرفيين والعمال البسطاء وليس فيهم متعلم واحد تعليما عاليا .. ولا شك أن مصاهرته
لهذه الأسرة سوف تحرجني مع أسرة فتاتي الارستقراطية.
وعقدنا مجلس العائلة وفوجئت بأن أبي وأمي
موافقان إرضاء لأخي، وغضبت من أسرتي وذكرتهم بأن هذه المصاهرة لا تليق بنا وبأنها
ستحرجنى مع أسرة خطيبتي .. واحتار أبي وأمي بيني وبين شقيقي , أما هو فلم يخرج عن
الأدب وأبلغني أنه لا يعترض على زواجي بالرغم من أنه يرى أنه أصهاري يتكبرون علينا
بلا مبرر ويرجوني أن أعامله بنفس المبدأ رعاية لحقة علي، فلم اقتنع بذلك وتنغصت
حياتنا بالشقاق بيني وبين أخي لأول مرة في حياتنا , وطالبته بالتنازل عن مشروع
زواجه من هذه الفتاة بالذات وحاولت اقناعه واسترضاءه بكل الوسائل فكان يصمت ولا
يرد .. ودخل الشيطان "لعنة الله عليه بيننا" وتهورت عليه بالألفاظ التي
لم أعرفها من قبل , فلم يجبني بمثلها وطلب مني أبي عدم المغالاة في مطالبي من شقيقي
فلم يجد مني استجابة , وفعلت نفس الشئ أمي وأختي فثرت عليهما ثورة عارمة .. وعلا صوتي
في البيت حتى ارتجفتا من الفزع , ومضت الأيام وحالتي العصبية تزداد سوءا , وتوقعت
بين لحظة وأخرى أن يتنازل شقيقي عن طلبه ارضاء لي .. لكني فوجئت به يطلب تحديد
موعد لكي نذهب كلنا لخطبة فتاته .. وتطورت المناقشة بيننا بالرغم من هدوئه فلم
أشعر بنفسي إلا وأنا أصفعه على وجهه صفعة قاسية , ارتمى على فوتيل من مفاجاتها
وصرخت أمي وأختي , ونهض أخي متحفزا وهم بأن يهجم علي ثم توقف وأنزل يده ونظر إلي
طويلا وغادر الشقة وانصرف صامتا, ولم تكن له وظيفة في ذلك الوقت وكان يساعدنا في
التجارة فتوقعت أن يذهب إلى أبي ويروي له
ما حدث, وهممت بأن أجري وراءه لأعتذر له لكنه لم يذهب لأبيه ولم يعد للبيت , وأمضى
بضعة أيام عند بعض أصدقائه , وغضب مني أبي حين عرف بما جرى غضبا هائلا وخاصمني
يومين ومع ذلك لم يستطع أن يتجاهل رغبتي وإرادتي ويحدد موعدا لخطبة شقيقي.
وخلال هذه الأيام بكيت بين يدى
أبي وأمي وأختي وأنا أدافع عن نفسي وأفسر موقفي وأشرح أسباب حرجي حتى اعترفوا
بأنهم لم يعودوا يعرفون من المخطئ ومن المصيب .. فعرفت في هذه اللحظة أني قد بدأت
استمليهم إلى صفي ورغم ذلك كنت أتشوق لعودة الصفاء بيني وبين شقيقي ونعود كسابق عهدنا
بشرط أن يصرف النظر عن هذا الزواج .. لكن
الأمور مضت في طريق آخر، فقد ذهب شقيقي إلى أسرة فتاته وطلب يدها فرحب به أبوها
وأمها لكنهما أفهماه أنهما لا يمكن أن يقدما على خطبتها له بغير موافقة أبي وأمي
حرصا على عشرة العمر معهما.
وطالت غيبة أخي هذه المرة ,
وفوجئنا ذات يوم بأم فتاته في بيتنا تبكي وهي تقول لنا أن شقيقي قد اصطحب ابنتها
من عملها إلى مكتب مأذون بدون علم أبويها وعقد قرانه عليها ثم أعادها إلى البيت
وطلب من أمها الصفح عنه وعنها لأنه لم يعد يحتمل الإنتظار وقال أنه سيغيب في عمل
خارج القاهرة ثم يعود ويصطحب زوجته إلى شقة مفروشة إلى أن تحل المشكلة قريبا.
وطاش صوابي وانفجرت في الأم
واتهمتها بالتواطؤ معه هي وابنتها وطرتها من البيت وأمي تحاول أن تمنعني .. وأصبح
كل همي هو كيف أعثر عليه لأرغمه بالقوة على طلاق هذه الفتاة حتى لا يتحول الزواج
إلى أمر واقع لكني لم أعثر عليه في أي مكان ولا وجدت خبرا عنه لدى الأصدقاء أو
الأقرباء.
وساء خلقي مع الجميع إلى حد لم
أعهده في نفسي من قبل وتهجمت على فتاته في الشركة التي تعمل بها وسألتها بغلظة عنه
فارتعبت وأقسمت أنها لا تعرف مكانه .. وأصبحت أمر ببيتها كل بضعة أيام أسأل عنه
فيرتعب أهلها حين يرونني ويقسمون أنهم لا يعرفون عنوانه وأنه لم يتصل بهم وكنت قد
أعطيت خطيبتي في بداية المشكلة فكرة بدون تفاصيل عن أن أخي يريد الارتباط بفتاة
غير ملائمة اجتماعيا لنا وأني أرفض ذلك فأيدتني بقوة وطالبتني بعدم التراجع حرصا
على مظهر "أسرتنا" لكني أخفيت عنها نبأ الزواج , وكنت ألتقي بها كل
يومين تقريبا في المساء في بيتها أو فى الفنادق الكبرى .. ففوجئت بها وأنا في قمة احتياجي
لها وشدة ضيقي بما فعل أخي تطالبني بالاقتصار على مقابلة واحدة كل أسبوع لاقتراب
موعد الامتحان ثم أصبحت تعتذر عن اللقاء بحجة انشغالها ولا تتصل بي رغم اتصالي بها
.. وساهم جو النكد المقيم في البيت بسبب غياب أخي مع ضيقي بما فعل في مضاعفة شقائي
بما ألمسه من فتور خطيبتي .. وبدأت أشك في أنها تعرف شيئا عما حدث ولم يطل شكي فقد
جاءتني الصفعة على غير انتظار وفوجئت بوالدها الخطير يستدعيني في مكتبه ويسلمني الشبكة
والدبلة بلا أي تفسير سوى أن كل شئ نصيب ! وطلبت مقابلتها لأستفسر عما حدث فرفض
واتصلت بها تليفونيا فتهربت ولم تقل شيئا ولجأت إلى صديقي قريبها البعيد فعرفت منه
أن فتاتي الأرستقراطية التي خسرت شقيقي وتكدر صفو أسرتنا بسببها قد خطبت وهي
مخطوبة لي "أي والله وهي مخطوبة" لزميل لها بالنادي من رجال الأعمال
الأثرياء وأنه لضيق الوقت قرأوا الفاتحة قبل إبلاغي ثم أعادوا لي الشبكة في صباح
اليوم التالي، وتمت الخطبة بعد ذلك بيومين فقط وتم تقديم الشبكة الجديدة وسيعقد
القرآن بعد أسبوعين .. وسيتم الزفاف في نفس الليلة والسفر في رحلة شهر العسل في
الصباح .. وتعجبت بمرارة من أنها لم تحتاج إلى "دراسة" طويلا كما حدث
معي .. لأن الدراسة كانت فيما يبدو "مستمرة" بلا عطلة منذ وقت طويل ..
وتعجبت أكثر للمسايرة مع نية الغدر المبيتة.
وعدت لأبي مكتئبا فحاول أن يخفف
عني .. أما أمي فقد بكيت حزنا وأما أختي فقالت لي أنها لا تعرف هل تحزن علي أو
تشمت في لأني ظلمت شقيقي الذي طالما أحبني , وابتلعت آلامي وعدت للتفرغ للعمل
وتنشيطه بعد فترة انعدام التوازن الأخيرة ثم خرجت من العمل ذات يوم قبل شهر رمضان
بأسبوع تقريبا، فوجدت نفسي اتجه بسيارتي إلى بين زوجة شقيقي وأطرق الباب فتفتحه لي
هي وترتاع حين تراني لكني فاجأتها بالسلام ودخلت مطأطئ الرأس وطلبت الشاي واعتذرت
لأمها السيدة الطيبة التي ربتنا ونحن صغار وطلبت منها الصفح عما فعلت معها حين
طردتها من البيت وقبلت رأسها وطلبت منهما ابلاغ شقيقي حين يرونه بأن يعود لبيته
ليستعد للزفاف لأننا نريد أن نفرح به فأكدتا لي صادقتين أنه لم يتصل بهم منذ غيابه
وقالت زوجته أنها ترجح أنه يعمل في منطقة نائية كأسوان أو الغردقة أو سيناء وأنه
ينتظر أن يدخر بعض النقود ويثبت نفسه في العمل ثم يعود ليصطحبها إلى مقر عمله أو
ليؤجر شقة مفروشة رخيصة في القاهرة ويقيم معها فترة الأجازة ثم يعود للعمل من جديد
حيث وعدها بذلك .. وتعجبت وأنا اسمع هذا الكلام من أن جمع شمل هذين الحبيبين لا
يحتاج إلا إلى بضع مئات من الجنيهات في حين خسرت أنا في مرحلة الخطبة ومن قبلها
"الدراسة" آلافا كثيرة منها في الهدايا والدعوات والنزهات والرحلات بلا
طائل .. وخسرت أهم منها سلام النفس وصفاء شقيقي لي .. وصفاء بيتنا القديم .
ولــكــاتــب هــذه الـرسـالـة أقــول :
أهم ما نستفيده من رسالتك هذه
هو أنه ليس في الوجود شئ يستحق أن يخسر المرء بلا أي مبرر بسببه شقيقا صافي الحب
والمودة أو شقيقة محبة وفية أو هناء أسرة كان الحب يظللها وتعيش أيامها راضية .
فإن غاب عنا هذا الدرس أحيانا
.. وتغاضينا عن العدل والانصاف والرحمة بذوي القربى في سبيل هدف مهما علا تكفلت
الحياة غالبا بتذكيرنا به بثمن غال أو رخيص كل بما هو مقدر له , والأفضل حظا من
البشر هم الذين لا تفوتهم فرصة الندم الصادق على ما بدر منهم وطلب صفح الآخرين
وعفوهم .. والأشقياء منهم هم من لا يحسون الندم إلا بعد فوات الأوان ورحيل من لم
يعد ممكنا استرضاؤهم وطلب صفحهم .
ومن حسن طالعك أن الحياة لم
تدعك طويلا مبحرا في بحر الظلام .. وردتك سريعا بوخزة صغيرة من وخزاتها إلى رشدك
وطبيعتك البشرية السوية .
والحق أني كنت شديد العتاب لك
لقسوتك على شقيقك المحب الوديع الذي ضحى بحقه في أشياء كثيرة لكيلا يساهم في تكدير
صفوه حياة أسرته , وآثر الانسحاب الإيجابي من حياتكم والكفاح وحيدا بعيدا عنكم إلى
أن يستطيع العودة وتحقيق الأحلام .. لكن عتابي أشد لأبيك الذي لم يردعك في الوقت
المناسب عن ظلمك لأخيك وتعملقك على أسرتك بلا داع ولم أفهم كيف يتنازل لك عن دوره
كرب للأسرة ومرجعها الأخير وهو راشد ومتمالك لنفسه وصحته ؟ .. قد يكون مبدأ
التفويض في الصلاحيات مقبولا في دائرة العمل أما في دائرة الأسرة واتخاذ القرارات
العائلية فلا يجوز لربان السفينة أن يتنازل عن صلاحياته فيها لأحد أبدا .. ولا
ينبغي للأب أن يسلم لواءه لأحد أبنائه فيحكمه في رقاب الآخرين مادام قادرا على
أداء هذا الدور الأساسي وكفئا له .
والمؤكد أن أباك لم يتنازل لك
طائعا عن هذا الدور حتى أصبحت حياة شقيقك الشخصية رهينة لقرارتك ولكنك أرهقت أبويك
نفسيا ومعنويا بإبتزازك النفسي لهما وبتطلعاتك وحساباتك الخاصة وهواجسك فآثرا السلامة
وتفادي المشاكل معك واتخذا هذا الموقف السلبي الذي لم ينصف شقيقك منك في الوقت
المناسب.
لقد كان ينبغي لك يا صديقي أن تكون أكثر رحمة بأبوك وشقيقتك وأكثر إنصافا لأخيك . وكان ينبغى لك ألا تطوع حياة الآخرين ومشاعرهم لصالح هدف محدد لا يعني أحدا غيرك هو الانتساب لأسرة لم تحرص عليك , والإقتران بفتاة لم تكن راغبة فيك والجروح قصاص يا صديقي وسليلة الشرف والارستقراطية التي طعنتك طعنة لا أثر للشرف فيها بعد أن كدرت صفو حياتكم وشردت شقيقك الوحيد في البلاد بسببها .. قد اقتصت من حيث لا تدري ولا تريد لجرح شقيقك الذي ظلمته .. وغدا سوف يقتص لك منها آخر في علم الغيب ليس لأنها استنزفتك أكثر من 3 سنوات ثم فسخت الخطبة وإنما لأنها فسختها بغير أن تهتم حتى بأن تبلغك بنيتها وبطريقة غادرة لا تحافظ على شكل الاحترام الإنساني المفترض في العلاقات البشرية , وهكذا قد ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم الله من كليهما بعد ذلك كما قال الإمام مالك بن أنس.
فاستوعب الدرس يا صديقي وتحصن
ضد ظلم الأيام لك بألا تظلم أنت أحدا .. وأعد لأبيك لواءه كرب للأسرة ولا تبتزه
معنويا مرة أخرى ليسلمك القيادة تجنبا للمشاكل معك، وتذكر دائما أننا لا نستطيع أن
نكون كالآلهة قادرين على كل شئ .. وأننا لا نستطيع أن نتحكم في حياة الآخرين
ومشاعرهم ورغباتهم ونطوعها لخدمة أهدافنا ورغائبنا.. ففضلا عن أننا لسنا آلهة ..
فإن للحياة منطقا يخرج عن سيطرتنا .. وقد يتعارض في كثير من الأحيان مع أهوائنا
ورغباتنا .. فلا تحاول أن تكون إلها صغيرا مع شقيقك أو أسرتك مرة أخرى وأشكر ربك
أن لم تطل ملاحتك طويلا في بحر الظلمات وعدت راشدا إلى شاطئ الأمان .
وتكفي هذه الكلمات لاقناع شقيقك
بأن الأحوال قد تغيرت إلى الأفضل فعلا في أسرته .. ولكي يبدأ بالاتصال بكم على
الفور وتطمئن كل هذه القلوب المحبة التي تنتظره بلهفة في أقرب وقت .. إن شاء الله
وشكرا .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر