تحت الغطاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
أنا سيدة فى الرابعة والثلاثين
من عمري .. نشأت في أسرة متوسطة الحال كثيرة العدد، ورغم ذلك فلقد كنت أحس دائما
بالوحدة بين أفرادها لكثرة خلافاتهم وشجارهم وصوتهم العالي فاحتميت بوحدتي
الداخلية .. وتجنب المشاكل مع الجميع وواصلت دراستي حتى تخرجت وحصلت على مؤهل تربوي
وعملت بالتعليم وتقدم لخطبتي بعض شباب الأسرة فاعتذرت بغير أن أجرح أحدا تفاديا
للمشاكل التي لمستها بينهم وكراهيتي للدخول في حلبتها .. وبعد فترة تقدم لي شاب يكبرني
بتسع سنوات وسبقت له خطبة فتاة وعقد قرانه عليها ثم فشل مشروع الزواج فقبلته برغم
هذه الظروف لكي انفرد بحياتي فى شقة مستقلة بعيدا عن الضجيج والخلافات .. وأواصل
تعليمي العالي واشبع هوايتي فى القراءة وكتابة القصة وتذوق الشعر الخ.
وتم الزواج فى أسرع وقت ممكن
واستقبلت حياتي الجديدة بتلهف شديد للسعادة والاستقرار واعتزمت منذ اللحظة الأولى
أن اسعد نفسي وزوجي وأن أعيش معه رحلة عمر هادئة خالية من المنغصات والمشاكل ..
ونعمت بهذه السعادة التي تمنيتها فعلا في حياتي الجديدة وحملت وانجبت طفلا ..
فاكتملت لي أسبابها .. حتى رغم ملاحظتي أن الطفل كثير البكاء بشكل غير طبيعي ,
ومضت الأيام الأولى بعد ميلاه سعيدة رغم ازعاجه المستمر .. ثم اشتد بكاؤه بشكل شبه
دائم فبدأنا نستشير الأطباء فى أمره .. فلم يسعفنا أحد بعلاج ناجح ومضت الشهور وهو
على هذا الحال من البكاء وصعوبة ارضائه أو التفاهم معه بكل الوسائل والأطباء لا
يعرفون له علاجا حتى بلغ الثالثة من عمره واصطدمنا بأبشع حقيقة يمكن أن يصطدم بها
أبوان وهي أنه متخلف عقليا .. وانكسرنا حزنا عليه وماتت الفرحة في قلوبنا .. وفقد
كل شئ متعته وجماله فى أعيننا, ومع أننا حاولنا أن نتقبل أقدارنا بصبر .. إلا إني
عانيت الكثير فى رعايته ومازلت أعانى .. إذ ليته كان طفلا متخلفا ساكنا هادئا ..
وإنما هو طفل شديد العصبية ودائم الحركة يبكي دون سبب ويضحك دون سبب وكثير الصراخ
بشكل شديد الازعاج ولفترات طويلة فقد يكون جالسا فى هدوء ثم يبدأ فجأة الصراخ بشكل
حاد لسبب لا نعرفه .. ونحار فيما نستطيع أن نفعله لكي نعيد إليه هدوءه.
وبالتدريج وبخبرة الألم والمعاناة بدأنا نعرف
بعض أسباب صراخه الحاد ونحاول بقدر الامكان أن نتفاداها .. لكن كيف نستطيع أن
نتحكم فى الأشخاص والأشياء من حولنا لكي نرضيه ؟ إنه مثلا يحب ركوب السيارات ونحن
لا سيارة لنا ولا أمل لنا فى مثلها ذات يوم فإذا خرجت معه ومع زوجي لأي سبب من
الأسباب نقف فى انتظار سيارة أجرة .. فيبدأ في الصراخ ليركب أول سيارة تمر بنا
خاصة أو عامة أو أجرة وإذا توقف سائق الأجرة أمامنا ليسألنا عن طريقنا مد طفلي يده
ليفتح بابها فإذا كانت الكارثة واعتذر السائق لأننا لسنا في طريقه ومضى بعيدا انطلق صراخه يصمم
الآذان .
وهكذا في كل شئ يا سيدي بلا حل
ولا نهاية ولا أنسى يوم سافرنا به من الاسكندرية للقاهرة لنعرضه على طبيب شهير
للمخ والأعصاب .. فأصبحت رحلة القطار من ذكرياتنا الأليمة لأن ابني لا يريد للقطار
أن يتوقف فى المحطات ويصرخ عاليا إذا توقف فى محطة أو هدأ من سيره .. وعندما طالت
الرحلة نهض من مكانه يريد أن ينزل من القطار وهو ينهب الأرض ويصرخ ونحن نبكي وكل
من حولنا يتعجبون ويتألمون لنا .
وغير ذلك كثير وكثير ولا أريد
أن أؤلم أحد بالاسترسال فيه لكن يكفي أن أقول لك أني اضطررت لإغلاق باب الشرفة
بقفل حديدي رغم أنها المنفذ الوحيد للشقة الضيقة في الحارة التي أعيش فيها لأنه يريد
أن يخرج إليها كل لحظة , وأنني منذ 8 سنوات لم أخرج مرة واحدة مع زوجي في زيارة أو
نزهة أو إلى السينما أو لقضاء حاجة من حاجات الحياة لأن أحدنا لابد أن يلازم البيت
مع ابننا إلى أن يعود الآخر من مهمته .. كما أننا ونحن من سكان الإسكندرية لم نذهب
إلى شاطئ البحر منذ 6 سنوات إلا مرة واحدة .. وكان يوما أشد سوادا من يوم رحلة
القطار وقد انقطعنا تماما عن الناس وانقطعوا عنا .. لأننا لا نزور أحدا .. إذ كيف
نزوره ومعنا ابننا هذا .. أما حين يزورنا البعض فإن الجلسة تتحول تلقائيا إلى
الحديث عن الولد ومشاكله وتصرفاته .. وتكثر النصائح والارشادات حتى أن إحدى
زميلاتي قالت لي ذات مرة وهى ترقب معاناتي معه أنني لابد قد ظلمت أحدا فى حياتي ..
فانتقم مني الله بهذا الولد مع إني يعلم الله لم أؤذ أحدا ولم أخرج على طاعته طوال
حياتي .. لكن ماذا أقول في قضائه وقدره .. لقد عافت نفسي بعدها زيارات الآخرين
فانقطعت عنهم حتى عن الأهل وانقطعوا عنا بالتدريج .. وحين بلغ ابني الخامسة
واستقرت الكآبة فى أعماقي نصحني أحد الأطباء بالاسكندرية بالحمل مرة أخرى على
مسئوليته عسى أن يعوضني الله عن طفلي الأول بطفل طبيعي .. فاستخرت الله وحملت
وانجبت طفلة جميلة وكان الله بي رحيما فجاءت طبيعية بل وذكية .. ثم ما لبثت حين
تقدمت في طفولتها قليلا أن شاركتنا المعاناة معه .. فقد بدأت تتساءل لماذا لا
يكلمها أخوها الذي لا يتكلم ولا يستجيب لمداعباتها ولماذا يصرخ كثيرا .. ولماذا لا
نخرج معا كلنا كما يفعل باقي الأطفال مع آبائهم ولماذا إذا زارتها طفلة في سنها
وشاهدت صراخ أخيها فزعت وفرت ورفضت العودة لزيارتها مرة أخرى .. وأنا أجيب عن كل
تساؤلاتها بالصمت وأحيانا بالدموع العاجزة.
وسوف تسألني بالطبع لماذا لم
يذهب لأى مدرسة من مدارس التأهيل الفكري المخصصة لأمثاله وأجيبك بأني قد فعلت حين
بلغ سن الالزام .. فطفت على جمعيات التأهيل الفكري الخيرية واكتشفت أن بها قوائم
انتظار طويلة جدا وأنها كالمدراس الخاصة لا مكان فيها إلا لمن يدفع أكثر ويتبرع
لها أكثر وأكثر ومع ذلك فقد كافحت لايجاد مكان له وتطلب الأمر عرضه على مستشفى
الطلبة لتحديد نسبة ذكائه قبل قبوله .. وكانت رحلة شديدة العذاب والإيلام لأنه لا
يستطيع انتظار دوره فى المستشفى أو أى عيادة .. ويتسبب فى ازعاج شديد لنا ولمن
حوله .. وقد أمضى طفولته بغير أن نذهب به لعيادة طبيب وكلما مرض بمرض من أمراض
الأطفال اذهب أنا أو أبوه إلى الطبيب لنصف له الأعراض ويصف لنا الدواء .. وبعد
عذاب طويل وجدت له مكانا فى مدرسة متوسطة المستوى ورفضت أن يقيم بها إقامة كاملة لأني
لم أطمئن على حسن رعايته بالقسم الداخلي .. وفضلت أن أتحمل عناء رعايته بالبيت بعد
المدرسة على أن يقال أني تخليت عنه وألقيت به فى مدرسة داخلية .
ولأني لا أستطيع أن أذهب به إلى
المدرسة واعيده منها فقد اتفقت مع أحد عمالها على أن يقوم بهذه المهمة مقابل أجر
مناسب .. وأصبح نصف مرتبي مخصصا لطفلي هذا .. ووسط هذه الآلام كلها لا أعرف كيف
واصلت تعليمي وحصلت على مؤهل عال بتقدير جيد ولا أعرف كيف اقتنعت بوجهة نظر زوجي
بأن طفلتنا مظلومة معنا ومع شقيقها لأننا ننهرها كثيرا من شدة ضيقنا ولأنها محرومة
من الأشقاء وبالتالي فلابد من الحمل لننجب لها شقيقا آخر يعينها في مستقبل الأيام
على تحمل مسئولية رعاية هذا الطفل الذي سيظل يحتاج إلى رعاية شقيقته بعد رحيلنا عن
الحياة وطوال عمره , وقد حملت وتعلقت بالأمل وانجبت منذ عامين ونصف عام طفلا ثالثا
.. وأكد لي الأطباء أنه طبيعي لكن قلبي لم يطمئن لحظة إلى أنه كذلك وظل الخوف
يوسوس لي أنه سيكون مثل شقيقه .. حتى بلغ العام الأول من عمره فإذا بإحساسي يصدق
فيه للأسف وإذا بمصيبتي في طفلي الأول تتكرر وتتجسد مرة أخرى في طفلي الوليد
وتأكدنا من تخلفه ولم يخفف عني تأكيد الأطباء لي أن مخه سليم عضويا لكنه متأخر عقليا
وأنه أفضل نوعا ما من شقيقه.
وها قد بلغ عامين ونصف العام من
عمره ولم يبدأ المشي على الحائط إلا منذ أيام وهو لا يتكلم كشقيقه الذي بلغ الآن
عامه الحادي عشر لكن مشاكله أكثر لأني لابد أن أودعه الحضانة حين اذهب إلى عملي ..
وكانت بعض الحضانات ترفضه أحيانا لكثرة نواحه .. فلجأت إلى أمي وتوسلت إليها أن
يبقى عندها فترة عملي وسمعت الكثير من الشكوى منه وتحملت لأني لا استطيع الاستغناء
عن مرتبي الذي يساعدني في تحمل نفقات طفلي الأكبر وأنا الآن في أجازة الصيف .
والسلام عليكم ورحمة الله .
ولــكــاتــبة هـذه الـرسـالة أقــول :
في أحيان كثيرة تعيد بعض رسائل
المهمومين إلى ذاكرتي تلك الأسطورة القديمة عن ذلك الشاب الذي أطلق سراح جني كان
سجينا في قمقم .. فكافأه الجني بتلبية رغبة غريبة له بأن تكون له القدرة على أن
يرى ويسمع من خلال جدران البيوت ويطلع على ما يجري داخلها .. فمد الجني يده
الخرافية ورفع سقوف البيوت أمام ناظريه ودعاه ليرى حياة الناس داخلها .. فرأى
الشاب وسمع الكثير .. وعرف حقائق الحياة التي لم يكن يعرفها .. واكتشف لدهشته أنه
أقل الناس معاناة وقد كان يظن نفسه من أكثرهم ثم لم يطل احتماله لما يرى ويحس من
كآبة وهموم تخفيها ستر البيوت وراءها فأسرع يطالب الجني بإعادة الغطاء إلى مكانه
.. ومضى فى طريقه نشيطا وقد استعاد بعض إقباله على الحياة !
وأحسب أن رسالتك وبعض ما ينشر
فى هذا الباب يؤدي أحيانا تلك المهمة الخيالية في الأسطورة القديمة .. إذ كيف لمن
تمتحنه الأقدار بمثل بلائك هذا أن يعرف عمق المعاناة التي يعانيها أمثالك أعانك
الله وأعانهم على ما ابتلوا به .. وكيف للبعض أن يعرفوا قيمة ما وهبهم الله من
السعادة .. إن لم تتح لهم الفرصة ليكتشفوا أن ما بين أيديهم كثير لكنهم لا يعرفون
؟
لقد قال الشاعر الانجليزي
رديارد كبلنج ذات يوم : أنت لا تعرف انجلترا إذا كنت لم تعرف من البلاد سوى
انجلترا !
وهذا صحيح لأن معرفتك بالبلاد
الأخرى يتيح لك أن تضع بلدك فى موضعها الصحيح من خريطة الدنيا بعد أن تقارنها
بغيرها .. وما ينطبق على البلاد ينطبق على البشر وهمومهم التي قد لا يستطيع البعض
بغير المقارنة أن يضعوها في موضعها الصحيح من خريطة الهموم ومع تسليمنا الدائم بما
تجري به المقادير إلا إنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل : إن هذا البلاء قدر
مقدور على البشر فى كل مكان من الأرض لكن لماذا نحن وحدنا الذين لا يعيننا أحد على
احتماله والتعايش معه بأقل الأضرار والمعاناة ؟
إن أمثال طفليك فى المجتمعات
الراقية تتوافر لهم بلا أي معاناة أماكن في مدارس التأهيل الفكري التي تساعدهم على
التعامل مع الحياة .. وتتولى رعايتهم الرعاية الكاملة على ايدي خبراء متخصصين
ومعظم هذه المدارس مجانية تمولها تبرعات القادرين وميزانيات الدول .. وتلك
المجتمعات ترى أن هؤلاء المعذبين الصغار هم مسئوليتها قبل أن يكونوا مسئولية أسرهم
التي فجعت فيهم وبالتالي فإن رعايتهم من واجبها قبل أن تكون من واجب الأهل
المهمومين ونحن لدينا بعض المدارس المجانية للتأهيل الفكري والتنمية الفكرية لكنها
قليلة العدد ولا تستوعب الأعداد المتزايدة من هؤلاء المعذبين .. ولديها قوائم
انتظار بالسنوات ناهيك عن مستوى بعضها .
ولا أحد فيما يبدو يحس بمدى
انتشار هذه المعاناة في مجتمعنا ولا بمدى الحاجة إلى مزيد من هذه المدارس ومزيد من
المتخصصين فى تعليم هؤلاء المعذبين ورعايتهم .
وبعض أسر هؤلاء المحرومين لا
يتعذبون فقط بالمعاناة في رعايتهم بالقلق والبحث عن أماكن لهم فى المدارس الخاصة
بهم .. وإنما يتعذبون أيضا بالقلق القاتل عليهم كلما فكروا في مصيرهم حين يرحل
الآباء والأمهات عن الدنيا ويخلفون وراءهم أبناء غير قادرين على مواجهة الحياة
وليس هناك من على استعداد لأن يتحمل مسئولية رعايتهم .
فمتى نتنبه لهذه الكارثة التي
تفسد حياة أي أسرة تبتلى بها ؟ .. وكيف السبيل إلى رعاية هؤلاء إن لم نضاعف من إنشاء المدارس الخاصة بهم ومن مساندة الجمعيات التي ترعاهم ؟
إنني أتلقى عديدا من الطلبات
المماثلة لطلبك يا سيدتي .. واسعى قدر جهدي لتلبيتها وأتوقف ذاهلا أمام قوائم
الانتظار المهولة فى مدارس الرعاية ومع ذلك فإني كبير الأمل في أن تستجيب احدى هذه
المؤسسات لتحقيق رغبتك ولو تطلب الأمر أن يتكفل بريد الأهرام بأداء التبرع "الاختياري"
المطلوب لإيجاد مكان لطفلك بها .. أما أنت وزوجك فلا أملك لكما بعد ذلك سوى أن
أقول أننا أمام تصاريف القدر لا نملك إلا التسليم ومحاولة تكييف ظروفنا مع الواقع
الذي تخلقه في حياتنا مهما كان قاسيا ومؤلما وأن أحزانكما مما يقف أمامه المرء
عاجزا ومتذكرا ما جاء فى التوراة من "إن الله إذا أحب عبدا نصب فى قلبه
نائحة" وأنه بقدر ما يصبر على ما
يكره يكون رضوان الله أكبر ويكون الفوز العظيم ولسوف اتصل بك قريبا بإذن الله
وسلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
رابط رسالة ينبوع الحنان تعقيبا على هذه الرسالة
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس
1991
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر