ينبوع الحنان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
استوقفتني رسالة السيدة التي
روت قصة شقائها مع طفليها المعاقيين ذهنيا والتى نشرت بعنوان " تحت
الغطاء" وكيف حول طفلها الأكبر حياتها وزوجها إلى جحيم وسبب لهما العديد من
المشاكل فكتبت تسأل النصيحة والتخفيف عنها .
وأريد أن أروي لها قصتي التي
عشتها مع زوجتي لعلها تتخفف بها من بعض آلامها.
فأنا رجل من رجال التعليم وقد
رزقنا الله بطفل يعاني من عيب خلقي بالقلب ومعاق بالتخلف الذهني وتخلفه من نوع
"المونجوليزم" وخلاصته هي أن عمره العقلي يظل دائما أقل من عمره الزمني
.. أى أنه ينمو في الجسم وفي العمر لكنه لا ينمو في العقل والنضج العقلي بنفس
الدرجة .. فتقبلنا أقدارنا صابرين وطرقنا جميع الأبواب من مؤسسات فكرية وتربوية
لتعليم أمثاله ثم استقر به المقام في البيت بعد بلوغه أقصى سن للدراسة بهذه المؤسسات
وهو 16 سنة واحطناه بالحب والرعاية بالرغم مما كان يسببه لنا من ازعاج .. ومع مضي
السنوات تحسنت حالته نسبيا ثم وفقنا الله مؤخرا فى إلحاقه بعمل في أحد المصانع
كعامل تغليف بشهادة من التأهيل الفكري .. فإذا به يقبل على عمله بإخلاص وتفان
ويصبح خلال أيام محبوبا من أصحاب المصنع وكل زملائه ويرتفع أجره ويتقاضى مرتبا
يغبطه عليه خريجو الجامعات .. أما عطاؤه للعمل فبلا حدود حتى أنه يعمل فى الفترات
التي يتطلب العمل في المصنع السهر من التاسعة إلى الثالثة صباحا بلا كلل ولا ملل
ويثور حين أذهب لإحضاره منه ويطالبني بالانتظار بعض الوقت لينهى ما فى يده من عمل
.
وحين يغيب عن المصنع بسبب ما فلا
تتخيل سعادتنا وسعادته وهو يجيب بالفرحة كلها على مكالمات زملائه الذين يسألون عن
سبب غيابه ويريدون الاطمئنان عليه فإذا خرج إلى الشارع لم يلق من الجميع إلا الحب
والابتسام والمداعبة والنداء بإسمه والكل يريدون محادثته ويسعدون به ورغم صعوبة
الكلام والعيب الخلقي في القلب فلقد حباه الله سبحانه وتعالى بحماية خاصة يتعجب
لها الأطباء الذين يتابعون حالته الصحية .
أما في البيت وأتمنى أن تزورنا
تلك الأم المعذبة وزوجها ليلمسا ذلك .. ويتأكدا منه فهو ينبوع سعادتنا .. ننام
آمنين ويكون هو آخر من ينام بعد أن يغلق محابس الغاز ويطفئ الأنوار .. ويظل ساهرا
فى النافذة ينتظر عودة شقيقه طالب التجارة .. ولو أردت أن أصف لك ما يحمله من حب
لشقيقه ولأبيه ولأمه وللحياة ولكل الناس لما اسعفتنى الكلمات.
أفنستطيع بعد ذلك أن نقول شيئا
سوى الحمدلله على كل ما يهبنا من هبات وعطايا .. إنني أقول لكاتبة الرسالة أن
هؤلاء الأطفال الكبار نعمة وليسوا نقمة .. ففي قلوبهم حنان على الأبوين والأهل قد
تجف أحيانا بعض منابعه فى قلوب الأسوياء .. وعاما وراء عام سوف يكبر طفلك المزعج
الآن ويتحول إلى شاب يحمل قلب طفل ويفيض تجاهكم حبا وعطفا حتى النهاية إن شاء الله
.. وأرجو أن تقبلي مع زوجك دعوتي لزيارتنا في البيت وفي المصنع ليطمئن قلبك إلى أن
عذابك لن يطول إن شاء الله .
ولــكـــاتـب
هــذه الــرسـالـة أقــول:
من رضى فله الرضا .. ومن سخط
فله السخط كما جاء فى بعض الحديث الشريف ورسالتك يا سيدي تقطر رضا وتقبلا للمقادير
فلا عجب إذن في أن تتكشف لك الألطاف الخفية وراء ما حملته لك الأقدار فتستمتع
بالحنان والحب اللذين يتدفقان من قلب ابنك لأسرته وللجميع .. وتسعد بحب الآخرين له
وابتهاجهم به وبسؤالهم عنه حين يغيب وبهذا الاحساس الشفيف من الصفاء والنقاء الذي
يشيعه حوله أينما حل وأينما سار.
إنه واحد من أحباء الحياة الذين
لم تلوث نفوسهم الدنايا والأحقاد .. والأطماع .. فكيف لا يحبه الجميع وكيف لا
يسعدون به ؟
إنني أشكرك لمحاولتك النبيلة
مشاركة كاتبة الرسالة وزوجها همهما والتهوين عليهما , ولدعوتك لهما لزيارتكم ولعل
ظروفهما تسمح لهما ذات يوم بتلبيتها ليزدادا ثقة في ربهما وأملا فى رحمته .. وهما
أيضا من الصابرين الراضيين مثلكما وقد لمست فيهما ذلك حين اتصلت بهما منذ أيام
لأبلغهما ببعض الاستجابات التي تلقيتها بشأن طفلهما وشكرا لك مرة أخرى.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس
1991
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
تعليقات
إرسال تعليق
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وشكرا