بيت الغاضبات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

بيت الغاضبات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

بيت الغاضبات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

يخيل إلى في بعض الأحيان أننا نغالى في تحميل «الشيطان» مسئولية أخطائنا وحماقاتنا ونقص إدراكنا لحقائق الحياة، فنفعل ما تمليه علينا نوازعنا دون تبصر ولا مراجعة .. ونستجيب لأهوائنا بلا تعقل ولا إنصاف، ثم نبرر لأنفسنا كل ما فعلناه وما ارتكبناه من حماقات بأنه "الشيطان" لعنة الله عليه .
عبد الوهاب مطاوع

 

أنا سيدة في الرابعة والعشرين من عمري .. عقد قراني وأنا في عامی الجامعي الثالث على شاب متدين ، واتفقنا على أن يتم الزواج بعد انتهائي من دراستي .. وانتظرنی زوجی عاما ونصف عام حتى تخرجت وأنهيت استعداداتي للزواج ، ثم تزوجنا .. وبدأت حياتي الزوجية ... فوجدت نفسي تائهة وسط مسئوليات البيت الجديد، ولا أعرف الكثير من الشئون المنزلية .. فلجأت إلى أمي.. فكانت تخدمني لكنها لم تعلمني .. وتحمل زوجي تقصيري في كل أعمال البيت ، ولم يشك من ذلك، كما لم يشك أيضا من خلافاتنا التي ظهرت في الشهور الأولى من حياتنا بسبب اختلاف الطباع.. وتحمل حدتي عليه.. بل وإهاناتی له في بعض الأوقات! 


ثم شعرت بالجنين يتحرك في أحشائی، فأحسست أنه سيكون نقطة قوة لي على زوجي، فزادت حدتي معه .. إلى أن هجر بيت الزوجية لأسباب تافهة ، وذهبن إلى بيت أمي حيث وجدت الحياة الناعمة بلا مسئوليات ولا متاعب .. فازداد إصراري على عدم العودة إلى بيت زوجی وطلبت الطلاق منه !

وحاول زوجي إصلاح الأمر بيننا فلم يلق منا إلا التعنت والجحود، وكرر المحاولة مرة أخرى قائلا: إنه يتمسك بحياتي معه وبأن ينشأ ابننا بيننا، فلم يلق سوى الإهانة مني ومن أمي وإخوتي .. وتملكني الشيطان تماما حتى إنني تحمست لفكرة قرأتها في كتاب قديم هي إنشاء بيت للغاضبات تلجأ إليه كل من تغضب من زوجها .. ورحت أتحدث عن هذه الفكرة كثيرا وأدعو لها . ومضت خمسة أشهر وأنا مقيمة في بيت أمی دون أن يطلقني زوجی.


وذات يوم كنت أستقل سيارة أجرة، وكان السائق يدير شريطا لأحد رجال الدين يتحدث فيه عن هجر الزوجة لزوجها بلا سبب، وعقاب الله لمن تطلب الطلاق من زوجها من غير سبب ، ولمن لا تحسن عشرة زوجها وتتعامل معه بعيدا عن الرحمة والمودة ... فدار رأسي، واستغرقني التفكير في أمري عدة أيام، وأدركت أن كل ما حدث بيننا هو من فعل الشيطان الرجيم الذي تلاعب بي لأهدم بيتي .. فعزمت على أن أرجع لزوجي، وأرسل إليه وسيطا - ليس من أهلي - ليجس نبضه ويحاول فتح الأبواب المغلقة بيننا من جديد.. ففوجئ بزوجي يقول له: إنه لن يسامحني على ما فعلت به وعلى هجرى له خمسة أشهر كاملة دون ذنب جناه .

 

لقد أخطأت یا سیدی في حق زوجي وكنت أرى أن طاعة أهلى هي الواجبة على وليست طاعته .. كما كنت أؤمن أنهم الأبقى لي وليس هو.. والآن أدركت أن طاعتي لزوجي لا تتعارض مع حق أهلي على، وأن اعتزازي بهم ينبغي له ألا ينقص من اعتزازی بزوجي.. وأرجوك أن تكتب له أنني قد كرهت الآن فكرة بيت الغاضبات ولم أعد أشيد بها ، وأنني مستعدة لأن أقبل يده وقدمه كل يوم حتى يرضى عني .. وأنني أرجو أن ترجع الحياة الزوجية بيننا کا کانت بحلوها وبمشاكلها "الجميلة" التي سأتحملها الآن ، ولن أضيق بها كما كنت أفعل من قبل.. وشكرا لك ..

 

•• ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

يخيل إلى في بعض الأحيان أننا نغالى في تحميل «الشيطان» مسئولية أخطائنا وحماقاتنا ونقص إدراكنا لحقائق الحياة، فنفعل ما تمليه علينا نوازعنا دون تبصر ولا مراجعة .. ونستجيب لأهوائنا بلا تعقل ولا إنصاف، ثم نبرر لأنفسنا كل ما فعلناه وما ارتكبناه من حماقات بأنه "الشيطان" لعنة الله عليه .. ونعفي أنفسنا بذلك من كل لوم ونستريح!

وهذا هو ما تفعلينه الآن في رسالت هذه حين تبررين كل ما ارتكبت من أخطاء في حق زوجك بأنه «الشيطان» وحده ولا شيء سواه ! ولست أعترض كثيرا على هذا التبرير إذا اعتبرنا شیطان كل إنسان نفسه وتذكرنا قول الشاعر : 

عدو گل لبيب نفسه فإذا ما

استحكمت منه لا تبقي ولا تذر !

 

كما أنني لا أراك وحدك المسئولة عن تدمير علاقتك بزوج ، وفرارك من بيت الزوجية بعد شهور قليلة من الزواج، ولا عن سوء فهم لطبيعة الحياة الزوجية، ولا عن تصور لها كعلاقة صراع بين طرفين يحتاج كل منهما إلى عناصر «للقوة» لكي ترجح كفته فيه على حساب الآخر.. فالحق أن أسرتك - وعلى وجه التحديد والدتك؟ - تتحمل النصيب الأوفي من مسئولية سوء إعدادك لتحمل مسئوليات الحياة الزوجية، ومسئولية نقص إدراكك لحقائقها الصحيحة !


فلقد بدأت حياتك الزوجية وأنت - كما تقولين - لا تعرفين الشيء الكثير عن الشئون المنزلية ومسئوليات الحياة الزوجية .. وحين شعرت بالضياع والحيرة أمام هذه المسئوليات، فإن والدتك قد اكتفت بالقيام عنك ببعضها ولم تقم بتعليمك كيفية أدائها وتحمل مسئولياتها، ولم تستهد في ذلك بالحكمة الصينية القديمة التي تقول «إنه خير من أن تعطى محتاجا سمكة، أن تعلمه كيف يصيد السمك».. كما أنك من ناحية أخرى لم تبذلى أي جهد يذكر من ناحيتك لتعلمها، ربما لمي للديك  للدعة والراحة والنفور من المسئولية، ويرجح هذا الظن لدى أن من يرغب في أداء واجباته ومسئولياته .. فإنه قد يتعلم ما لا يعرفه بالمشاهدة وطلب المشورة .. وبالرغبة القوية في تعلمه والإرادة .. وليس بالاستعانة بغيره على أدائه .. والرغبة والإرادة لم يتوافرا لديك - فيما أتصور - لتحمل مسئوليات الحياة الزوجية .. ولهذا آثرت الاعتماد على غيرك .. وتغطية قصورك وعجزك بالحدة على زوجك، والتماس أسباب "القوة" الموهومة لديك في جنينك الذي تحرك في أحشائك. ثم حين ضقت بتبعات هذه المسئولية ففررت من تحملها بافتعال أسباب الخلاف مع زوجك ، وفضلت الاستنامة للحياة الخالية من الأعباء والمسئوليات في بيت أسرتك .

ومن عجب أن أسرتك التي كان ينبغي لها أن تعيدك إلى الرشد وتنبهك إلى أخطائك و قصورك، قد وافقت على طلب الطلاق من زوجك وأغلقت في وجهه أبواب الرجاء وأساءت إليه . فأي شيطان هذا الذي «تفرغ» تماما للوسوسة لك ولأفراد أسرتك بكل هذه الأخطاء والحماقات؟.. لقد أدركت متأخرة بعض حقائق الحياة .. واعترفت لنفسك بخطئك في حق زوجك ورغبت في استئناف الحياة معه .. فأية وسيلة اخترتيها إذن لتحقيق هذا الهدف ؟

لقد أوفدت إليه رسولا من غير أهلك لكيلا يعرف زوجك أنه يتحدث إليه باسمك .. وأنك ترغبين حقا في العودة إليه، ولم يعتذر عنك الرسول فيما ارتكبت في حق زوجك من أخطاء، وإنما راح - بناء على رغبتك - يتحسس مدى استعداده هو لأن يستأنف من جديد محاولاته للصلح معك واستجداء عودتك إليه التي توقف عنها عندما استشعر المهانة والرفض.. فكأنما - حتى حين أدركت خطئك في حق زوجك - قد أبيت الاعتراف له بالخطأ والاعتذار عنه .. وأردت أن ترسلى إليه فقط الإشارة المبهمة بأنه إذا تجرع غصته واستأنف محاولاته لاستعادتك .. فقد تنجح المحاولات هذه المرة ..


وليس هكذا يفعل من يشعر حقا بفداحة خطئه في حق شریکه ويرغب في أن يقنعه بأنه قد تعلم درس التجربة واستفاد من أخطائه ، وأصبح أكثر استعدادا لتحمل مسئوليات الحياة الزوجية وتفادي العثرات والخلافات السابقة .. ولأنك لم تبلغی زوجك بهذه الرسالة الصريحة ، فإنه قد أجاب رسولك بأنه لم يعف عنك ولم يغفر .

إنني أنصحك بألا تماري في الاعتراف الصريح المباشر له بخطئك في حقه ، والاعتذار له عن هجرك له بلا مبرر طوال الشهور الماضية .. کا أنصحك أيضا بألا تتجملي في مصارحته برغبتك في العودة إليه وبدء صفحة جديدة معه على أسس صحيحة ومختلفة للحياة الزوجية، فهذا وحده هو ما سوف يقنعه بأن قد تعلمتي حقا درس التجربة واكتسبت فهما جديدا لحقائق الحياة .. فاتصلي بزوجك يا سيدتي وأبلغيه بهذه الرسالة المباشرة ، وتحملى عتبه عليك ومرارته منك حتی تصفو نفسه ..

  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سنة 1999

شارك في الاعداد / محمد يسري

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات