القائمة الرئيسية

الصفحات

سائق المترو .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 

سائق المترو .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991


سائق المترو .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 

أنا رجل فى الخامسة والأربعين من عمري .. لم يحالفني التوفيق في استكمال تعليمي بعد الشهادة الابتدائية لأسباب عديدة منها وفاة أبي وأنا في الرابعة من عمري والحياة في بيت زوج الأم .. والخلافات بين الأشقاء إلى جانب المستوى المعيشي البسيط لقبول ما تفرضه عليه الظروف أحيانا بغير رغبة منه فقد وجدت نفسي وأنا في الثلاثين من عمري مطلقا مرتين وقد خرجت من كل زيجة خاسرا المأوى والمال القليل الذى كان معي لأبدأ حياتي من جديد وفي يدي بنت وولد أصبحا شريكين لي في المعاناة .

وكان لابد لي أن أبحث عن مهنة مستقرة بعد أن تنقلت بين عدة مهن مختلفة فعملت نقاشا وميكانيكيا وشرطيا وموزع بوتاجاز الخ .. ووفقني الله للعمل كسائق بمترو مصر الجديدة فاستقررت فى هذا العمل وأحببته أما الطفلان فقد أودعتهما بيوت إخوتي بالتناوب وأصبحت أبيت في إحدى عربات المترو بعد تخزينها فى الورش وفي نهاية كل شهر أذهب إلى بيت أخي أو أختي الذي يقيم به الطفلان لأطمئن عليهما وأعطي من يرعاهما ذلك الشهر معظم مرتبي وأعيش بما يتبقى منه.

 وقد علمتني ظروف الحياة القاسية أن أتجاهل الاستغاثات الصامتة فى عيون الطفلين من التفرقة بينهم وبين أبناء عمومتهم بل ومن الضرب حتى لا يفقدا المأوى وعوضهما الله عن ذلك حبا غريبا يحمله كل منهما للآخر وحنانا لا يكتسبه من لم يعرف معاناتهما فى مثل هذه السن . واستمر الحال هكذا 4 سنوات لم أكف خلالها عن البحث عن أم جديدة لأطفالي ومأوى يجمعني معهما .. وشاءت إرادة الله أن أجدها فى إنسانة طيبة لها نفس ظروفي إذ أنها مطلقة ومعها طفلتان ولا مأوى لها مثلي وتقيم لدى شقيقتها .. فبدأت أمومتها للطفلتين على الفور وقبل أن نرتبط أو نجد المأوى فأحباها وأحبتهما وبدوري أنا أيضا فقد باشرت أبوتي مع طفلتيها وتزوجنا وعثرنا بعد معاناة شديدة على غرفة بلا ماء ولا كهرباء وبها ما يشبه السقف فجمعنا حولنا أطفالنا وعرفنا طعم السعادة والاستقرار ولم ينغص علينا حياتنا فيها شئ سوى صقيع الشتاء والمطر الذى يسقط من السقف الوهمي لحجرتنا .. ورغم ذلك فلقد أصبحنا أسرة سعيدة تتبادل الحب والعطف والاهتمام .

ولم ينسنا خالقنا فأكرمنا بمسكن لم أحلم  فى يوم من الأيام بالاقامة فيه .. وحصلت على شقة من ثلاث غرف وصالة فى مدينة السلام .. فأصبح وياللسعادة للبنات الثلاث غرفتهن وللولد غرفته ولي ولزوجتي غرفتنا ورزقنا الله بطفلة خامسة فأصبحنا أسرة من زوجين و4 بنات وولد . وسجدت لله شاكرا فضله وواصلت كفاحي لاستكمال مطالب بيتنا الصغير الجميل .. فوفرت لأسرتي بعض الأثاث القليل وجهاز تليفزيون أبيض وأسود وغسالة وبوتاجاز لكيلا يشعر أبنائي الخمسة بالحرمان الذي عانيته معظم سنوات عمري , ولكنني تسرعت في ذلك على حساب بعض النواحي الأخرى فأسرفت في الاقتراض من كل جهة استطيع الاقتراض منها مقابل سداد القرض على اقساط تخصم من مرتبي .. وأثر ذلك على ما تبقى منه فعجزت عن سداد ايجار الشقة لمدة تقرب من السنة الآن .. وحين راجعت نفسي وجدت أنه فيما عدا ما اشتريته من أثاث وأجهزة ضرورية فإني لا أنفق قرشا فى غير موضعة لكن مطالب الحياة كثيرة فكبرى بناتي تلميذة في السنة الثانية الاعدادية وتحتاج أثناء الدراسة إلى 10 قروش كل يوم , وابني في السنة الأولى منها ويحتاج نفس المبلغ وباقي الصغار يحصل كل منهم على 5 قروش .. والزي المدرسي لا يتحمل أكثر من عامين ولابد من شراء غيره .. وباقي متاعب الحياة لا تعنيني كثيرا ولا تهمني في شئ وإنما يعنيني فقط ألا أخسر المأوى بعد أن وجدته واستقرت فيه حياتنا .. لهذا فهل لك أن تساعدنى فى إيجاد عمل إضافي مناسب يساعدني على مواجهة مطالب أسرتي والحفاظ على مسكني ؟

 

ولـكــاتــب هــذه الـرسـالـة أقول :

 

أرجو أن يوفقني الله في إيجاد هذا العمل الإضافي ليعينك على حماية استقرار أسرتك التي جمع بينها التعاطف والحنان والرغبة المشتركة فى الأمان .. فتفضل بزيارتي مساء الاثنين القادم وارشحك من الآن بسبب جمال خطك وسلامة لغتك العربية التي تستحق الإعجاب رغم حظك القليل من التعليم لأداء أي عمل كتابي مناسب بكفاءة ونجاح .

وآمل حين تبدأ هذا العمل وتجني ثماره أن تتوقف عن ارهاق مرتبك الأصلي بإضافة أية قروض جديدة إليه , وذلك حتى يعتدل ميزان مدفوعاتك المائل بشدة الآن .. وتستقيم حياتك وتهنأ  بتحقيق أحلامك البسيطة بالتدريج وبغير عثرات تهدد البنيان كله بالانهيار مرة أخرى , مع نصيحتي المخلصة لك بأن "تنظر حولك " بشدة وتكتفي بمن تعولهم الآن من أفراد هذه القبيلة الصغيرة السعيدة , لتستطيع بحق أن تجنبهم حياة الحرمان والمعاناة بإذن الله .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس 1991

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود