بطاقة التعارف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
أريد أولا أن أذكرك بنفسي ..
فأقول لك أنني صاحبة الرسالة التى نشرت بعنوان " إسار الصمت" الطالبة
الجامعية بإحدى الكليات الجامعية بالأقاليم التي كتبت لك تقول إنها فقدت سمعها
كلية بعد 3 عمليات جراحية فاشلة على يد طبيب كبير وشكت لك مما تعانيه من وحدة فى
كليتها لأن زميلاتها وزملاءها فى الجامعة قد نبذوها وعزفوا عن صداقتها بسبب قلة
صبرهم على صعوبة التفاهم معها .. وقلت لك في رسالتي أنني لا أرغب فى أكثر من أن
يحيط بي زملائي وزميلاتي كما يفعلون فيما بينهم وألا يتركوني وحيدة أعاني من الصمت
الدائم فى فناء الكلية ولا أجد من يقف معي أو يحدثني فى حين ينهمكون جميعا فى
أحاديث طويلة وضحكات وأسرار واهتمامات مشتركة بعيدا عني .
والحمد لله فقد اهتمت بي صديقات
كثيرات من صديقات بريد الأهرام بعد نشر رسالتي وقد حصلن على عنواني منك وراسلنني في
مدينتي القريبة من الاسكندرية وراسلت الجميع بدون تفرقة ومازلت وقد حصلت والحمد لله
على الليسانس فى العام الماضي بدون رسوب.
أما عن سمعي فمازلت للأسف صماء وعرفت أن استعادة
سمعي صعبة المنال فى مصر , وإن كان نجاحي قد خفف عني هذه الصدمة .
وأنا أكتب لك هذه الرسالة الآن
لاستشيرك فى أمر يؤرقني ويؤرق أمي بشدة .
فلقد تقدم لخطبتي خلال الفترة الماضية عدد من
الشباب المثقف من أصحاب المراكز المرموقة .. فكان الأمر يتم دائما على النحو
التالي :
ينخدعون بجمالي الهادئ المحتشم
والمنطقة الراقية التي نسكن فيها ويظنون أنني سليمة وثرية ثم عندما يكتشفون بعد ذلك
أنني من أسرة متوسطة وذات عاهة أجدهم "فص ملح وداب" وفي لحظة واحدة !
شباب مثقفون متدينون رفضوني يا سيدي
جميعا بحجة أن "ماما " لن توافق على أن يتزوج ابنها من فتاة معوقة ! ..
يوافقون علي مبدئيا ثم يتراجعون بعدها بكل سهولة ولا يخشون الله فى جرح كرامتي وأنوثتي
.. فهل تتصور هذا ؟ ألا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد تزوج الدميمة
والأرملة وكبيرة السن تطيبيا لخاطرهن ؟ إذا لماذا لا يفعلون ذلك معي اقتداء برسول
الله إن كانوا حقا متدينين؟
ولماذا يهربون مني يا سيدي ؟
ألست من لحم ودم ولي إحساس وعقل مثل كل الفتيات ؟ .. وأين الشهامة والأصالة
والأخلاق الحميدة التي تحلى بها الرسول الكريم وكان أحرى بهم أن يتحلوا بها اقتداء
به ؟
إنني للأسف لم أجد هذه الصفات
فى الشباب المتدينين الذين تقدموا لي ثم تراجعوا بلا أي تردد .. وقد بكت أمي حتى
انفطر قلبها وكادت عينها اليسرى تذبل من قسوة هؤلاء العرسان مع أني قلت لها مرارا
أن "الذقون" ليست بالضرورة دليلا على التدين وقلت لها مرارا أنا لا ذنب
لي في هذه الإعاقة وإنما هي إرادة الله .. لكنها لا ترحم نفسها , ولا ترحمني معها
وتخشى دائما أن تتركني وحيدة في غابة الحياة بدون رجل اتساند عليه فى رحلة الحياة،
ويرعاني بقية العمر .. وقد زاد الطين بلة كما يقولون أن تزوجت ابنة بواب العمارة
التي نقيم فيها منذ شهور فتضاعفت أحزان أمي .. وزادت نوبات بكائها لأنه على حد
قولها : تزوجت الجاهلة غير الجميلة وأنا الجميلة المتعملة لم أتزوج حتى الآن ! ..
ولا تتصور كم سببت لي هذه المقارنة الظالمة من آلام نفسية لكني أسامحها لأني أعرف
أنها حزينة من أجلي ولا تريد إلا سعادتي .. وأريد أن أسألك : أليس من حق المعوقة
أن تتزوج وتنجب مثل بقية الفتيات ؟ .. إن لدينا مشاعر وأحاسيس مثل الجميع ونتألم
لكل إشارة تحمل أي مساس بنا أو سخرية منا .. وأنا مثلا عندما أذهب إلى حفل زفاف
تقول لي المدعوات عقبى لك .. فأقول بتلقائية إن شاء الله فأجد رد الفعل الفوري هو
الغمز واللمز وابتسامة السخرية .. هكذا بلا تردد كأني لا أفهم معنى هذا الغمز أو
تلك الابتسامة !
ولــكـــاتـبة هــذه الـرسـالـة أقــول :
فى مسرحية "تشيتترا"
لشاعر الهند العظيم طاغور أحبت فتاة محرومة من الجمال نبيلا محاربا فلم يلتفت
إليها لإنشغاله عنها بانتصاراته وأمجاده وبالجميلات اللاتي يطاردنه ..
فتضرعت الفتاة للآلهة أن يعينها
على اكتساب حبه فاستجابت لها وأعارتها ثوبا من الجمال والفتنة التي تجتذب الأبصار
.. ولفت جمالها نظر الأمير إليها فوقع في غرامها ونعما معا بالحب لفترة ثم جاءت
الآلهة تطلب استعادة رداء الجمال لأن فترة استعارته قد انتهت فخفق قلب الفتاة
بالخوف من أن تفقد أميرها حين تفقد جمالها .. وصدعت بالأمر وردّت ثوب الفتنة وعادت
فتاة عادية كما كانت لكن الأمير لم يفقد حبه لها بل ولم ينتبه حتى إلى أنها قد
فقدت جمالها وتفانى فى حبها والاخلاص لها حتى النهاية .
ولا عجب في ذلك يا آنستي لأن
الجمال قد أدى مهمته الأولية وهي لفت نظره إليها ثم انتهت المهمة حين استقر الحب
فى القلب .. تماما كما تقوم بطاقة التعارف بالتعريف بين شخصين وتنتهى مهمتها
ويتوقف استمرار العلاقة بينهما بعد ذلك على ارتياح كل منهما للآخر وإعجابه بشخصيته
وتفاهمه معه وقدرته على التعامل معه .. والحب شئ آخر لا علاقة له بالجمال ولا
المؤهلات الجسمية أو الاجتماعية أو المادية ولا علاقة له باكتمال الحواس أو نقصها
ولا بأية مؤهلات أخرى عدا الشخصية والتفاهم والعشرة الجميلة التى تنسج خيوطها على
مهل فتوثق الروابط.
فإذا كان هؤلاء الشباب قد تسرعوا بالانصراف عنك
.. فلأنهم قد توقفوا عند بطاقة التعارف وأخطأوا قراءة بعض بياناتها .. ولم يعطوا
أنفسهم الفرصة الكافية لاستكشاف الجمال الحقيقي الذي لا علاقة له بحواس الإنسان
فيك .. ولو فعلوا أو تريثوا لوجد أكثر من واحد منهم فيك ضالته ولسعد بك ومعك .
وكثيرا ما نخطئ قراءة هذه
البيانات بسبب العجلة وسوء التقدير وندفع ثمن الخطأ غاليا من سنوات العمر وتجارب
الألم .. فلا تفقدي صبرك ولا ثقتك فى جدارتك بالحياة السعيدة مع من يستحقك ..
فلاشك أن هناك من يبحث عنك ويرى فيك نصفه الصحيح الذى يكتمل به .. لكنه لم يعرف
الطريق إليك بعد وسوف يعرفه إن آجلا أو عاجلا .
وليس عليك سوى الانتظار
والتفاؤل والثقة بربك وبنفسك .. ولا أعرف لماذا تذكرت الآن هذه العبارة للفيلسوف
البريطانى برتراند راسل :
على شفتي ابتسامة حب لمن يحبونني
وفي صدري إشفاق على من يكرهونني .. وبين ضلوعي قلب يرضى بكل ما يحكم علي به القدر
!
فليرض قلبك ولتبتسم شفتاك ..
ولتطمئن أمك إلى أن عدالة السماء لن تتخلى عنك إن شاء الله . ولتثقا معا فى أن
السعادة تهبط فوق الرؤوس بغير مقدمات حين يأذن مانح السعادة بهبوطها على من يشاء
وحين يشاء .
أما عن اقتراحك الأخير فإني أضعه تحت أنظار المهتمين بالمشكلة عسى أن يجدوا صيغة ملائمة للاستفادة به فى حل هذه المشكلة الهامة .. وشكرا.
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر