إسار الصمت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أنا يا سيدي طالبة أصبت منذ صغري بصمم جزئي في الأذنين, وبسبب جهل أبوي لم أجد من يبادر بعلاجي في الوقت المناسب وعشت طفولتي وصباي كذلك حتى وصلت إلى الثانوية العامة فصممت على أن أعالج أذني لكي أسمع المحاضرات حين يكتب لي الله النجاح وألتحق بالجامعة, فسافرت من مديني الصغيرة إلى الإسكندرية وعرضت نفسي على طبيب كبير هناك فأكد حاجتي لجراحة في أذني اليسرى وطلب مبلغا كبيرا لاجرائها ولم أستطع تدبير المبلغ لمرض أبي بالسكر وأمي بالكلى وشرحت ظروفي للطبيب فتنازل مشكورا عن نصف أجره على أن أتحمل أنا نفقات العلاج وأجريت الجراحة فعلا, وواظبت على العلاج لمدة 8 شهور بغير أن أسترد كامل سمعي وعرضت نفسي على الطبيب مرة أخرى فقرر ضرورة إجراء جراحة أخرى فى نفس الأذن لأن بها تسويسا خطيرا يهدد حياتي, وصارحته بأني لا أملك ما أدفعه له مقابل الجراحة, فقبل ساخطا أن يجريها لي في المستشفى المجاني فذهبت إلى المستشفى فى اليوم المحدد للجراحة .. ودخلت حجرة العمليات فلم أجد الطبيب الكبير وإنما وجدت بعض الأطباء الشبان .. سمعت حديثهم وكلامهم فيما بينهم, ثم بدأت الجراحة واستمرت لمدة ساعة كاملة .. وخرجت من حجرة العمليات وكانت أمي تنتظرني على بابها فتحدثت معها لاطمئنها علي فلم أسمع صوتي .. فظننت أن صوتي محبوس بسبب البنج وشكوت لها بالاشارة من ذلك فرأيت الدموع فى عينيها ورأيت شفتيها تتحرك ولا أسمع شيئا فعرفت أني قد فقدت ما كان قد بقي لي من سمع .. فغادرت المستشفى حزينة باكية وواظبت على العلاج مع الطبيب الكبير بلا فائدة وبعد شهور قرر اجراء جراحة ثالثة فى أذني اليمنى ورفض أن يتنازل عن شئ من أجره وأصر على اجرائها لي في مستشفى استثماري باهظ التكاليف لكيلا يتكرر الاهمال الذى أودي بسمعي في المستشفى المجاني واقترض أبي التكاليف من الأقارب ودخلت المستشفى وخرجت منه وأنا لا أسمع شيئا ولم يبق على امتحان الثانوية العامة سوى 3 شهور وكنت سأتقدم له للمرة الثالثة , فاستسلمت لمصيري ورضيت بقضاء الله وقدره وركزت جهدي في الحصول على الثانوية العامة وسلك الجراحة مازال في أذني ويؤلمني, فمن الله علي بالنجاح بمجموع لا بأس به كأنه يعوضني عما خسرت .
وشاءت الظروف أن يفتتح فى مدينتنا فرع جديد لكلية الآداب فتقدمت إليه لكيلا اضطر
للسفر كل يوم إلى الإسكندرية وقبلت الكلية أوراقي وجاءت السنة الدراسية فسألت نفسي
كيف سأواجه زملائى فى الجامعة .. وقدرت أنهم إذا عرفوا أنى صماء فلن أسلم من سخرية
البعض منهم ففضلت الاستذكار فى البيت حتى اتجنب ما يؤذي مشاعري, وكانت النتيجة أني
رسبت فى السنة الأولى لأني لم أجد من يوجهني لطريقة استذكار المقرر الجامعي لكني
لم أيأس وتقدمت لامتحان الإعادة ونجحت وانتقلت للسنة الثانية ففكرت فى أن أقوم
بالذهاب إلى الكلية لكيلا أرسب مرة أخرى وذهبت إليها بالفعل مع بداية العام الجامعي
.. ففوجئت بأن مجتمع الكلية مقسم إلى شلل من الزميلات أو الزملاء .. وأنا وحيدة
بينهم لا أعرف أحدا ولا أجسر من الاقتراب من أحد.
فكنت أذهب كل صبح واعتمد على فراستي فى الرد على من يلقي علي تحية الصباح .. وابتسم باستمرار في وجه الجميع ثم تجاسرت واقتحمت إحدى هذه الشلل لكي أخرج من وحدتي لكنها نبذتني بعد قليل لأن أعضاءها وجدوا صعوبة فى التعامل معي .. فعدت إلى الصمت وأمضيت وقتي داخل جدران الكلية فى أستذكار دروسي وحدي .
ولـــكـــاتـــبة هـــذه الرســالـــة أقــــول:
نعم سأفعل يا صديقتي وسأبدأ
بالحديث إلى زميلاتك فأقول لهن أن التواصل الإنساني قد يتحقق أحيانا بغير وسيلة
الكلام بدليل أننا نتواصل أحيانا مع بعض من نقرأ لهم ونحس بنوع من الصداقة التى
تربط بيننا وبينهم بغير أن نتبادل معهم كلمة واحدة .. وبدليل أيضا أننا نستشعر
الأمان فى المكان الآهل بالبشر, ونستشعر الوحدة في المكان القفر مع أننا لم نتبادل
كلمة واحدة مع هؤلاء البشر .. كما أننا نحس أيضا بصلة حميمة مع أصدقاء لم نلتق بهم
منذ سنوات طويلة ونعتبرهم أصدقاءنا المقربين رغم تباعد الأماكن .. فإذا كان الأمر
كذلك فمن اليسير جدا أن تشعرن زميلتكن هذه بصداقتكن وبالأمان فى القرب منكن بغير
الاعتماد الكامل على وسيلة الكلام, إننا شركاء في الحياة ومسئولون عن تخفيف بعض
آلامها عن الآخرين كل فى حدود قدرته .. فإني لا أتصور أن تباعدكن عنها موقف متعمد
منكن وإنما هو غالبا إيقاع الحياة السريع الذي أنساكن عن الانتباه إلى حاجة هذه
الزميلة الصامتة إلى أنس صحبتكن .. ولولا ذلك لما وجدت نفسها فى حاجة إلى أن تبلغني
هذه الشكوى الإنسانية المؤثرة .
إن الوحدة هي أقسى عقاب تحكم به
الحياة على إنسان, فإذا اجتمعت عليه الوحدة الخارجية والوحدة الداخلية أصبح الأمر
فوق كل احتمال .. ولن أقول أكثر من ذلك لأن ثقتي فى سلامة النفس البشرية فوق كل
اعتبار.
أما أساتذتك يا آنستي فهم ليسوا فى حاجة إلى كلمة مني ليشاركوا زميلاتك هذا الواجب الإنساني تجاهك , لكني أرجو منك أن تكتبي إلي اسمك وعنوانك لعل الله يهيئ لك من أمرك ما يعوضك بعض ما جناه عليك الجهل وقلة الإمكانيات واستهتار الطبيب الذى تركك لمن تعلموا فيك مجانا درسا من دروسهم العملية .. لا سامحهم الله ولا سامحه .. ولا غفر لظروف الحياة الصعبة التي تجعل الحفاظ على إحدى حواس الإنسان الأساسية مرهونا بالقدرة المالية قبل أى إعتبار آخر.
رابط رسالة بطاقة التعارف من كاتبة الرسالة سنة 1991
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر