الأب الرسمي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 

الأب الرسمي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998


 الأب الرسمي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998



أنا فتاة عمري 26 سنة .. انتمي لأسرة ميسورة الحال ولي من الأخوة شقيقان أحدهما يكبرني بعام واحد, والآخر يصغرني بثلاثة أعوام, وأبي يعمل في مجال الهندسة وأمي ربة بيت وهذه هي أسرتي "الرسمية" .. أما أسرتي الحقيقية فهي في بيت جدي وجدتي لأمي .. فلقد نشأت وعشت حياتي كلها في بيت جدي .. ولست أعرف السبب الذى جعل أمي تتركني وأنا طفلة صغيرة عند جدتي , إلى أن تعلقت بها وبجدي تعلقا شديدا دفعني لأن أرتبط بهما أكثر من ارتباطي بأبي وأمي , وإلى حد أنني وحتى وقت قريب لم أكن أصدق أن جدتي هذه ليست أمي الحقيقية, ذلك أنني ومنذ طفولتي المبكرة وأنا أناديها "بماما" وأنادي جدي "ببابا" وحين كانا يقولان لي وأنا طفلة صغيرة أن بيتهما ليس بيتي الأصلي وأنني مقيمة فيه لفترة مؤقتة فقط, وسوف أرجع إلى بيت أسرتي, كنت أبكي بشدة وأتعلق بجدي وجدتي وأطلب منهما ألا يتخليا عني أو يدعاني أذهب مع هذا "الشخص" الذى يقول أنه أبي, وهذه "السيدة" التي تقول أنها أمي, فلقد كنت أتصور وأنا طفلة أنهما من أقاربنا الذين يزوروننا لبعض الوقت ثم يرجعون من حيث جاءوا, وكنت أتحدث إليهما فأقول لأمي "يا طنط" وأقول لأبي " يا عمو" , ثم تقدمت في العمر بعض الشئ وبدأت أدرك حقائق الحياة لكني لم أستطع بالرغم من ذلك مغادرة البيت الذى نشأت فيه أو الاستغناء عن جدتي وجدي اللذين ربياني لكي أنتقل للإقامة مع أبي وأمي .. بل أنني كنت حين أذهب لزيارتهما استجابة لطلبهما كنت أذهب إليهما مضطرة كنوع من أداء الواجب , ثم أرجع فى لهفة إلى بيتي .. كما أنني لم أكن أشعر تجاه أمي "الرسمية" بمشاعر البنت تجاه أمها.

 

وهكذا مضت حياتي في بيت جدتي وجدي وحتى وقت قريب كنت أتصور أن أبي الرسمي هو الذي ينفق علي ويتحمل تكاليف حياتي في بيت جدي كما كانت تقول لي جدتي, غير أنني اكتشفت غير ذلك للأسف أخيرا, وقد جاء اكتشافي هذه الحقيقة فى مناسبة خطيرة فى حياتي, فلقد تقدم لخطبتي شاب مناسب وألتقى بأبي الرسمي وطلب منه يدي ووافق أبي عليه, ثم طلب منه أن يتوجه لمقابلة جدي لكي يتفاهم معه حول تفاصيل الزواج, وجاء الشاب لمقابلة جدي لكي يتفاهم معه حول تفاصيل الزواج, وجاء الشاب لمقابلة جدي بالفعل وتفاهم معه حول كل شئ وخلال مشاورات الزواج علمت أن أبي "الرسمي" قد رفض رفضا نهائيا أن ينفق على اعداد جهازي مليما واحدا بحجة أنني قد رفضت الحياة معه ومع أمي في بيتهما.

وجدي لا يعترض على أن يتحمل تكاليف جهازي .. لكني أتألم لهذا الموقف وأتساءل : أليس من حقي الشرعي على أبي الحقيقي أن ينفق علي وأن يتكفل بنفقات زواجي؟..

وإذا كنت قد رفضت بالفعل الحياة مع أبي وأمي في بيتهما .. فما ذنبي في ذلك وقد تركاني في بيت جدي وجدتي وأنا طفلة صغيرة إلى أن تعلقت بهما وأصبح من الصعب علي أن أفارقهما إلى بيت أبي وأمي .. بل وماذا كانا يتوقعان مني أن أفعل سوى ذلك وقد تربيت فى أحضان جدي وجدتي وتعلقت بهما للغاية .. وهل الأبوة بالنسب فقط .. أم بأشياء أخرى عديدة كالعطف والحب والحنان الذى يلمسه الابن فيمن رباه ورعاه ؟

.لقد وجدت كل ذلك فى جدي وجدتي ولم يكن سهلا علي أن أفارقهما إلى أشخاص آخرين لم أشعر تجاههم بأى نوع من العاطفة الحقيقية التى يمكن أن تجمع شمل الأسرة.

إنني أريد مشورتك فى موقف أبي "الرسمي" من تكاليف زواجي .. فماذا تقول لي ؟

 

ولــكـاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول:

 

كان من عادات اليابانيين فى الزواج أن توقد العروس يوم زفافها مشعلا تقدمه لخطيبها فيستلمه منها ثم يشعل به النار فى ألعاب العروس والدمى القديمة التى تحتفظ بها منذ أيام الطفولة فيكون ذلك اشارة إلى أن وقت اللهو فى حياة العروس قد انتهى .. وأن وقت تحمل المسئولية والتعامل مع الحياة بجدية قد بدأ .. ويخيل إلي يا آنستي أن فترة الطفولة اللاهية واتباع هوى النفس بغير تبصر للعواقب أو تحمس لأداء الواجب الإنساني تجاه أقرب الناس إليك قد طالت فى حياتك بعض الشئ إلى أن أفقت ذات يوم فوجدت نفسك ربما للمرة الأولى فى حياتك مطالبة بتحمل تبعات اختيارك لتفضيل صحبة جدك وجدتك على واجبك الديني والإنساني في الانضمام إلى أبويك حين أرادا ذلك وطلباه منك بإلحاح فكان الخذلان لهما من جانبك وكان الجرح الدامي لمشاعرهما لعقوقك لهما.

إنك الآن تسأليني عن حقوقك الشرعية على أبيك .. وأجيبك عن سؤالك بأنه من الناحية الشرعية فإن من حقك على أبيك أن ينفق عليك ويتحمل تكاليف حياتك سواء أكنت تعيشين فى ظلاله أو فى أى مكان آخر مادام كان قادرا على ذلك, وكنت أنت فى احتياج لانفاق الأب عليك , كما أن الأب يقوم عادة بتجهيز ابنته على سبيل الهدية المستحبة من مال الأب.

غير أنه على الناحية الأخرى, فإن الحقوق لابد أن تقابلها أيضا واجبات, والشريعة العادلة التي فرضت على الأب نفقة الولد هي أيضا الشريعة الحكيمة التى فرضت على نفس هذا الابن نفقة أبيه حين يعجز عن الكسب .. وعلى الناحية الإنسانية , فإن للأبناء على آبائهم وأمهاتهم حق الرعاية والحماية والتنشئة والاهتمام بأمرهم والحنان بهم والعطف عليهم وللآباء والأمهات أيضا على أبنائهم حق البر بهم والتواصل معهم واشعارهم بحبهم وحنانهم وعطفهم .. وهو طريق ذو اتجاهين صاعد وهابط .. وليس من العدل أن يطلب طرف أن تكون صلته بالطرف الآخر نهرا سريع الجريان يصب لديه بالعطف والرعاية والكفالة وكل أنواع الحقوق المادية والمعنوية , بغير أن يقابل هو كل ذلك بأي عطاء من أى نوع للطرف الآخر .

 




ولم يتصديا لرغبات الطفولة اللاهية لديك .. ولو كانا قد فعلا , لما تجاوزت فترة "شقائك" بالعودة إلى بيت أبويك بضعة أيام وربما بضعة أسابيع .. ولكنت قد نشأت بين أحضان أبويك كما نشأ شقيقاك لكنك استسلمت لدلال الطفولة وأعانك على ذلك جدك وجدتك وربما يكونان قد أغرياك به أيضا .. وفى ذلك فإن أباك يا آنستي يلوم في أعماقه جديك على أن ساعداك على التشبث بالاستمرار فى رعايتهما , وعلى فتور مشاعرك إن لم أقل جفاءها تجاهه وتجاه أمك.

ولقد كان منطقه حين انتهى وقت اللهو فى حياتك وجاءه من يطلب يدك .. أن من أعانك على مباعدته ومجافاته ورفضه, لابد له أيضا من أن يدفع ثمن استئثاره العاطفي الذي ناله منك وحرم هو منه ..

وليس الخطأ فى حد ذاته هو أن تنشئ فى بيت جدك , ولكن في أن تفضلي صحبتهما طوال العمر وحتى سن الشباب على صحبة أبويك , وعلى غير إرادتهما الحقيقية , أما الخطأ الأكبر والأبشع فهو أن تكون مشاعرك تجاههما بهذا الجفاء والنفور لغير سبب سوى أنك قد سعدت بحياتك بين جديك وألفت ما يقدمانه لك من عطاء عاطفي غامر بلغ بك فيما أتصور حافة التدليل الزائد .. وفى تقديري أن موقف أبيك من رفضه تحمل تكاليف زواجك لا يخلو من جانب الرغبة فى رد الصاع إلى جديك اللذين لم يساعداه فى الوقت المناسب على استعادتك واللذين أعاناك بطريق غير مباشر على التنكر لأبويك ورفض الحياة بينهما , ولست أستطيع أن ألوم أباك كل اللوم على هذا الموقف .. لكني أطالبه فقط بألا يسمح لرغبته فى رد الصاع لجدك وجدتك صاعين, بأن تدفعه للتخلي عن واجبه الديني والأخلاقي تجاه ابنته حتى ولو كانت قد قصرت فى أداء حقوقه إليه ففضلت عليه غيره, فهذا الواجب إنما يؤديه لابراء ذمته أمام ربه وليس استرضاء لهذه الابنة النافرة ولا استجداء لمشاعرها الجافة .. ولأن هناك دائما فارقا بين عطاء الواجب وعطاء الحب , فإني أدعوه لأن يقدم لك عطاء الواجب الذي يمثل الحد الأدنى من مسئوليته عن اعدادك للزواج على أن يتحمل جدك القادر النصف الآخر من تكاليف هذا الزواج لمسئوليته عن عدم تقويم مفاهيمك العائلية وعدم ترشيد مشاعرك تجاه ابويك فى سن الغرس وبذر البذور , ولأنك قبل كل ذلك وبعده حفيدته وربيبته .. والسلام.

اضغط هنا لقراءة رسالة الدور العلوي تعقيبا على هذه الرسالة

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1998

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات