الحبل المشدود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

الحبل المشدود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


 الحبل المشدود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

أنا يا سيدى فتاة عمري 22 عاما أدرس بإحدى الجامعات وتعلمت فى مدارس أجنبية وحين كنت فى الثالثة عشرة من عمري وأخي في العاشرة وأختي فى الخامسة انفصل أبي عن أمي, ولم يسبب لنا هذا الانفصال وقتها مشاكل كثيرة فقد كنا نعيش فى بيت من ثلاثة أدوار يشغل الدور الأرضي مكتب أبي التجاري ويقيم جدي وجدتي لأبي في الدور الثاني, ونقيم أنا وإخوتي مع أمي بالدور الثالث, وحين وقع الانفصال انتقل أبي من شقتنا ليعيش مع أبيه وأمه في الدور الأوسط فلم نشعر كثيرا بمرارة الطلاق بين أبوينا وعشنا حياة شبه طبيعية فأمنا معنا وأبونا بالقرب منا لا يفصلنا عنه سوى بضع درجات من السلالم.

وبالرغم من ذلك كان أبي يوفر لنا ما نحتاجه ماديا, أما ما نحتاجه منه معنويا كأب فلا شئ! فلقد كان مشغولا دائما فى دوامة عمله وكلما حدثته عن احتياجنا النفسي والمعنوي إليه أجابني بأنه وسط أمواج البحر ولا خيار أمامه إلا أن يواصل العوم بلا هوادة وإلا غرق وأنه حين يصل لبر الأمان بالنسبة للعمل سوف يجد ما يعطيه لنا من وقت كاف.. أما أمي فقد ظلت خلال هذه السنوات فى حالة عصبية وشغلها الشاغل هو أن تحاول أن تتسبب لأبي في أي نوع من المشاكل اعتقادا منها أنها تستطيع بذلك إما استعادته أو الانتقام منه .. ثم عرفت فيما بعد وحين كبرت أنها كانت ضعيفة لدرجة لم تسمح لها بأن تحسن التصرف في أي شئ ولو فى استمالتنا والتقرب إلينا .. ونتيجة لكل ذلك فقد نشأت معتمدة على نفسي اعتمادا كليا واحسست دائما بوحدة قاسية بالرغم من وجود أبي وأمي إلى جواري.

 

 وتخرجت في مدرستي والتحقت بالجامعة وخطبت لإنسان كالملاك يحاول أن يعوضني الحب والحنان والدفء الذى افتقدته معظم سنوات عمري وظللت حياتنا تمضي على هذا النحو حتى بلغت أختي الصغرى الثانية عشرة من عمرها منذ حوالي عامين وانتهت بذلك حضانة أمي لها ولم يعد لها الحق فى الإقامة معنا فى الشقة وحان وقت رحيلها عنها فترك لنا أبي حق اختيار المكان الذى نقيم فيه اما أن نبقى فى الشقة بعد ذهاب أمي عنها وإما أن نصحبها ونقيم معها فى بيت والدتها, لكن شقة والدتها لا تتسع لنا نحن الثلاثة فحاولنا المستحيل مع أبي لكي تبقى أمنا معنا كما كنا وألا يتفرق شملنا فلم يستجب لنا أبدا وحاولنا المستحيل مع أمي لكي تصطحب معها أختي الصغيرة حتى لا تبعد عن رعايتها واشرافها فرفضت لكيلا تفرق بيننا كما قالت وانتقلت أمي إلى سكن والدتها فى حى بعيد عنا ومنذ هذه اللحظة فقط أحسست بقيمة أمي وقيمة وجودها بيننا برغم كل اخطائها بل وأحسست بالغربة واليتم بالرغم من وجود أبي وأمي على قيد الحياة.

 وسوف تسألني ولماذا الإحساس بالغربة واليتم وأبوك يستطيع أن يصعد بضع درجات السلالم ويقيم معكم وتعيشون تحت جناحه واشرافه ! واجيبك بأن هذا مستحيل لسبب بسيط هو أننا شبه غرباء عنه ولا نستطيع أن نتخيل حياتنا معه فى سكن واحد ولا هو يتخيل أن يحيا معنا أيضا لأننا اعتدنا ذلك منذ زمن طويل فضلا عن ان وجوده بيننا لن يغير من الأمر شيئا لأنه مازال يواصل العوم ولكن ليست هذه هى المشكلة لكن المشكلة هي أختي التي ستبلغ الرابعة عشرة بعد قليل, فبعد ذهاب أمي رسبت في مدرستها الأجنبية وفى هذا العام أيضا هي مهددة بالرسوب بسبب ضعف مستواها.. بل بالفصل من المدرسة كما أبلغتني إدارتها وقد حاولت أن أكون صديقتها وفشلت وحاولت أن أكون أمها وفشلت وحاولت بالحنان أحيانا بل وبالضرب أيضا فى بعض الأحيان ولم أنجح .. وكيف أنجح في تربية فتاة مراهقة وأنا عمري 22 سنة؟ وإلى أي مدى قد انجح وأنا سأتركها بعد وقت ليس طويلا وأتزوج.




لهذا أرجوك أن تكتب له مناشدا إياه ألا يدع رغبة الانتقام من أمي تمحو غريزة الأبوة في أعماقه فغريزة الأبوة أقوى من غريزة الانتقام أو ينبغي لها أن تكون كذلك وأن ما يفعله الآن من حرمان لأمي من الحياة معنا فى مسكننا ليس عقابا لأمي وحدها, لكنه عقاب لنا نحن أيضا وعلى جريمة لم نرتكبها للأسف .. كما أرجو منك أيضا أن تكتب لأختي وتنبهها إلى أن ما تفعله لن يضر أهلي ويجعلهم يشعرون بتعاستها كما تتصور وإنما سيضرها هي وحدها طوال العمر للأسف .. وشكرا لك.

 

ولــكاتــبة هـذه الـرسـالـة أقــول:

 

من المحزن حقا أن يحتاج الإنسان إلى وسيط لكي يتحاور من خلاله مع أقرب الناس إليه وينقل إليه آلامه وأفكاره وأمنياته .. إنها محنة إنسانية أخرى لست المسئولة عنها على أية حال وإنما المسئول عنها هو "جوار" الغرباء هذا الذي يجمعكم مع أبيكم المشغول بملاطمة أمواج البحر..

وأمكم البعيدة عنكم .. وسلسلة الأخطاء القديمة والرغبة المتبادلة فى الانتقام بين طرفين تمازج عرقهما سنوات طويلة وانجبا للحياة ثلاثة أبناء ثم حولتهما المرارة إلى خصمين لم يلتزما معا حتى بشرف الخصومة الذي قد يلتزم به بعض الأغراب فيما بينهم وأكبر دليل على ذلك هو رغبة كل منهما فى إيلام الآخر ووضعه أمام الطريق المسدود, وللأسف فإن وسيلة كل منهما إلى ذلك هي الأبناء الذين كان ينبغي أن يضحي كل منهما براحته وسعادته من أجلهم.

فالأم سارت شوطا طويلا من قبل فى إثارة المشاكل لأبيكم خلال اقامتها بينكم متصورة أنها بذلك قد تستعيده أو تنتقم منه على الأقل, والأب ظل يتحين الموعد المنتظر لانتهاء حضانتها ليحرمها من الحياة بينكم ورفض كل محاولاتكم للسماح لها بالبقاء لرعاية ابنتها الصغيرة ورعايتكم .. مع أنه كان يستطيع أن يفعل حتى ولو تحمل من أجلكم بعض المتاعب الاضافية لإسعادكم, والأم رفضت من ناحيتها هى الأخرى ضم ابنتها الصغيرة لها مع أنها أكثر ابنائها احتياجا إليها وأكثرهم تعرضا للمخاطر لكي تظل المشكلة ساخنة والجرح نازفا وكل طرف حريص على أن يلوي ذراع الآخر بالابناء وأن يظل الحبل مشدودا إلى أقصى حد حتى لا يريح الطرف الآخر وأنتم معلقون بهذا الحبل المشدود بينهما .. فماذا يستفيد الطرفان من هذه اللعبة الخطيرة ؟

إن كلمات رسالتك تكفي وحدها لإقناع أبيك بل وأمك أيضا بأن الانتقام الذى يدفع الأبناء ثمنه هو فى النهاية انتقام رخيص الفائز فيه أتعس من المهزوم وأكثر ظلما لنفسه ولأعزائه .. وتكفي أيضا لإقناع أبيك أن النجاح المادي بغير اطمئنان القلب إلى سعادة الأبناء ونجاحهم في الحياة لا يساوي فتيلا ولا يمكن أن يحقق أية سعادة وهو يستطيع إذا أراد أن يدفع عن نفسه وعن أبنائه هذا الشقاء إذا سمح لأم أبنائه بالعيش معهم لتتحمل مسئوليتها عن ابنتها الصغيرة وتعمل جاهدة على انقاذها مما يتهددها حتى ولو كان فى عودتها إلى البيت بعض العناء والمتاعب المنتظرة له.

إن الشريعة تدفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر, والضرر الأكبر بالنسبة له هو ضياع مستقبل ابنته الصغيرة ومعاناتها المستمرة فكيف يبخل عليها بتحمل أى عناء لانقاذها ولو لفترة أخرى من العمر؟

أما شقيقتك الصغرى فليس عندي ما أضيفه لها سوى أن تعاستها واضحة بغير برهان .. ولهذا فهي ليست فى حاجة لاثباتها بالفشل الدراسي أو بالشرود, إذ لا مبرر هناك لاضافة أسباب جديدة للشقاء تتوعدها بمعاناة الاحساس بالفشل والنقص تجاه أشقائها وزملائها الناجحين طوال العمر فلتتفهم أولا دوافعك الأخوية النبيلة للاهتمام بأمرها.. وتتقبل مساعدتك لها لأنها مساعدة بلا هدف إلا خيرها وسعادتها ولتحاول هي أن تعين نفسها على ظروفها وعلى مستقبلها.. وأما أنت يا آنستي فمزيدا من الصبر والفهم والحنان والحب لها يمكن أن يعينك على فتح الطرق المسدودة بينك وبينها فواصلي الجهد ولا تفقدي الأمل ..وشكرا لك.

 

                                                نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات