نعم .. لا .. ربما !
اسأل أي إنسان يقابلك هذا السؤال البسيط : هل أنت سعيد ؟ .. وسوف تحصل منه غالباً على هذه الإجابات الثلاث المتناقضة في نفس الوقت , وربما أيضاً بنفس هذا الترتيب .إذ سوف يجيبك في البداية وبغير تفكير : نعم .
وقبل أن تطلب منه أن يحدثك عن أسباب سعادته , سيكون قد راجع نفسه " وتذكر " بعض أوجه النقص في حياته , وبعض آماله المحبطة وتطلعاته المحرومة ..وهزائمه الشخصية , " فيصحح " إجابته الأولى مستدركا ويقول لك : لا !
وقبل أن تطلب منه
أن يشرح لك أسباب تعاسته , سيكون قد راجع نفسه أيضاً للمرة الثانية " وتذكر
" بعض ما يرضى عنه في حياته , وبعض ما أنعمتْ عليه به السماء من نِعَم جليلة
يطالبه ضميره الديني بألا يجحدها أو يتجاهلها لكيلا " تسحبها " منه
الأقدار وتعطيها لمن يشكر ربه عليها , فيستدرك مرة أخرى ويقول لك حائراً : لا أدري
, ربما كنت سعيداً ..وربما لم أكن ..لكن الحمد لله على كل حال !
وهكذا نحن جميعاً أمام هذا السؤال البسيط , وفي هذه الإجابة الثلاثية تتمثل حيرة الإنسان الأزلية مع السعادة ..وحلمه الأبدي فيها !
وبعض أسباب هذه
الحيرة يكمن في أن الإنسان يعتقد دائما أن هناك من هم اسعد حالاً منه , وبالتالي
فهو لم يبلغ بعد " مثال " السعادة الذي يتطلع له ويلمس له صوراً
براقة لدى الآخرين , وبعضها يرجع إلى الخطأ البشري القديم الذي تُصَوِّرُهُ هذه
العبارة الحكيمة للأديب الايرلندي العظيم برنارد شو حين قال : إن كل من تؤلمه
ضروسه يظن أن كل من لا يشكون من أسنانهم سعداء !
وبعضها يرجع كذلك
إلى أننا كثيراً ما نجهل أسباب السعادة الحقيقية المتاحة لنا , ولا نعرف لها
قدرها إلا إذا حرمتنا الأقدار منها , فبكينا عليها وأدركنا كم كنا
حمقى وأغبياء حين لم نلتفت إليها في حينها ولم نستمتع بها كاملة حين كانت بين
أيدينا , وأجمل تصوير لهذه الحالة هو ما جاء على لسان الفتاة العمياء "
جرتروود " في حوارها مع القس الذي تبناها وعلمها الأشياء , في رواية "
السيمفونية الريفية " للأديب الفرنسي أندريه جيد , حين قالت له :
إن الذين يُبْصِرونَ لا يدركون سعادتهم ..لكني أنا التي لا أبصر أدرك سعادة السمع !
ومن أسباب هذه
الحيرة أيضاً أننا نحن البشر لا نريد فقط أن نكون سعداء , بل وأسعد أيضاً من
الآخرين ..وبما أننا نتصور غالباً أن الآخرين أسعد حالاً مما هم عليه بالفعل ,
فهيهات أن نبلغ هذه الغاية العزيزة أو نعترف لأنفسنا بما نحن فيه من سعادة .
أما أهم هذه الأسباب وأعمقها أثراً في تقديري فهي أننا نتعامل مع حياتنا في كثير من الأحيان بمنطق التاجر غير الأمين .. الذي يريد أن يتهرب من سداد ضرائبه الكاملة على أرباحه , فيعمد إلى تضخيم الخسائر وتقليل الأرباح , ليجيء حسابه الختامي في النهاية خاسراً ولا تستحق الدولة عنه أي ضريبة !
ولسنا نفعل ذلك بوعي كامل به أو عامدين , لكنها طبيعة الإنسان التي تميل دائماً للرثاء للنفس , وإلى استصغار ما نالته من عطايا الحياة والرغبة الدائمة في الاستزادة منها على طريقة البحر – في المثل الشعبي القديم – الذي يحب الزيادة دائما ويكره النقصان .
وبهذا الميزان
المائل ..كثيراً ما يعد الإنسان حسابه مع السعادة فيسجل في الخانة الأخيرة منه أنه
حساب خاسر وليس رابحاً !
انظر مثلاً إلى ذلك البطل العربي والخليفة الأموي في الأندلس " عبد الرحمن الناصر " الذي ولي الحكم وهو في الحادية والعشرين من عمره , واستقبلت الأمة ولايته بالاستبشار والرضا والأمل في أن يعيد توحيد مملكة العرب في الأندلس بعد أن تمزقت معظم أطرافها بالعصيان والتمرد , فهب الخليفة الشاب المحبوب من رعيته وقاد جيوشه لمحاربة الولايات الخارجة عليه , وأخضعها جميعها , واسترد كل ما ضيعه أسلافه الضعفاء , وسار النصر والفوز دائماً في ركابه حتى وصفه ابن خلدون في تاريخه بعبارة " حِلْفِ السُعُودِ " , أي حليف السعد والفوز والانتصار , واستغرق ذلك منه 18 عاماً حتى أحكم فرض سلطانه على المملكة ووسع رقعتها , ثم دعا بنفسه خليفة للأندلس , وتسمى باسم " الناصر لدين الله " , واستمتع بالقوة والمجد والنفوذ وحب الجماهير بعد ذلك طوال 32 عاماً , ثم مات في سن السبعين من عمره بعد أن حكم بلاده 50 عاماً حقق خلالها من جلائل الأعمال ما يعجز الخيال عن تصوّره ...انظر إلى هذا البطل المنتصر محبوب الأقدار ماذا كتب بخط يده عن حياته وهو في أخريات عمره ..لقد كتب – كما سجل ذلك ابن خلدون في تاريخه :
أن أيام السرور
التي صَفَتْ لي هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا , ويوم كذا من شهر كذا من سنة
كذا ! الخ .
وأحصى ابن خلدون
أيام السرور هذه في حياته فوجدها 14 يوماً فقط لا تزيد , وعلق على ذلك قائلاً :
فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها لأوليائها , وبُخلها بكمال الأحوال
..فهذا الخليفة حلف السعود المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا وفي الصعود ,
ملكها خمسين سنة وسبعة أشهر وثلاثة أيام , فلم تَصْفُ له إلا أربعة عشر يوماً
..فسبحان ذي العزة القائمة ..والمملكة الدائمة ..لا إله إلا هو !
وانظر أيضا إلى
ذلك الشاعر الألماني العظيم " جوته" الذي عاش بين عامي 1749 و 1832 ,
واستمتع بكل صور المجد والنجاح والثراء والشهرة والتكريم والسعادة الشخصية والحب ,
حتى لقد انطوت صفحة حياته وهو يحظى بحب فتاة صغيرة جميلة , فُتنت به وأخلصت له
الحب وحنت عليه وهدهدت مشاعره حتى الرمق الأخير من عمره ...انظر إليه ماذا قال
لصديقه الناقد الأدبي الشاب إكرمان الذي اقترب منه في سنواته الأخيرة وكتب سيرته
الذاتية ؟
لقد قال له :
" لقد عُدِدْتُ دائماً من المحظوظين , ولستُ في الحقيقة أشكو من حياتي , لكنه
من الحق أيضاً أن أقرر أنني لم ألقَ فيها سوى التعب والهم , وأستطيع أن أقول في
النهاية : إنني خلال خمس وسبعين سنة – عمره وقت هذا الحديث – لم أستمتع بالراحة
التامة شهراً واحداً , وأن حياتي كانت دائماً دفعاً مستمراً للحجر إلى قمة الجبل ,
فما أن يصل إلى القمة حتى تدحرجه الآلهة إلى السفح وترغمني على إعادة دفعه لأعلى
من جديد كما في أسطورة سيزيف الإغريقية " .
ماذا نقول حين
نقرأ ذلك ..أو حين نسمع كلاماً مشابهاً له من أي إنسان آخر يُعتبر بحق من
المحظوظين و " حلفاء السعود " ؟!
هل نقول ما قاله
ابن خلدون : فأعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها لأوليائها ...وبخلها بكمال
الأحوال ؟
أم نقول : فانظر
أيها العاقل إلى ميل الإنسان الغريزي للرثاء لنفسه واستصغاره الدائم لعطايا الحياة
له , وتعذيبه لنفسه بحلم أبدي في " مثال " لا وجود له إلا في خيال
الحالمين بالسعادة المطلقة ؟
إنني شخصياً من
أنصار هذه العبارة الأخيرة ..ومن أنصار المبدأ الإيماني العظيم (( وإِنْ تَعُدُّو
نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ))- صدق الله العظيم ..
ومن المؤمنين بأن
لكل إنسان في الوجود من سعادته الخاصة ما ينبغي له أن يرضيه , ومن همه بنفسه ما
يدعو ربه لأن يتم نعمته عليه فيكشفه عنه أو يُعينه على قبوله والعيش به
باعتباره من الخسائر الإنسانية الضرورية التي لا يخلو منها كشف الحساب الختامي
لرحلة أي إنسان في الوجود مع الحياة .
كما أنني أيضاً من
أنصار مبدأ " السعادة الخفية " التي لا يدرك كنهها إلا أصحاب القلوب
الحكيمة والبصائر السليمة ..والتي عَبَّر عنها ذلك القطب الصوفي الكبير الذي
سُئِلَ : كيف يحتمل هو ومريدوه حياتهم المتقشفة الجافة الخالية من كل متع الحياة ؟
.. فأجاب سائله : " لو علم الحكام ما نحن فيه من نعيم لَجالدونَا عليه
بالسيوف " ... أي لقاتلونا بالسيوف ليأخذوا منا بعضه ويستمتعوا به مثلنا !
كما أنني أيضاً من أنصار الحكمة الهندية القديمة التي تقول : كل شيء مكروه .. سيصبح مألوفاً لنا بعد حين !
وتعجبني كثيراً تلك القصة الأسبانية الشعبية التي تحكي عن رجل كان دائم السخط لأنه لا يملك حذاءً , إلى أن رأى رجلاً بلا قدمين فرضي عن حفاءه لأول مرة , وكف عن الشكوى والسخط من ذلك الحين .
فهل تشاركني هذا
الاختيار يا صديقي ؟ .. وبماذا سوف تجيبني إذا سألتُكَ هذا السؤال البسيط الذي
بدأت به حديثي إليك ؟
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر