الاختبار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أنا يا سيدي شاب في الخامسة
والعشرين من عمري طالب بالسنة النهائية بإحدى الكليات العملية, منذ خمسة عشر عاما
كنا نعيش فى أحد أحياء القاهرة المتوسطة المستوى ونحيا حياة هادئة سعيدة وكانت
أسرتي تتكون من أبي وأمي وأختي التي تكبرني بثلاث سنوات وأنا الابن الوحيد, ومنذ
تفتحت عيناي على الدنيا وجدت أبي يملك مصنعا صغيرا نعيش حياة طيبة من أرباحه
المعقوله .. ومضت بنا الحياة هكذا إلى أن جاءت "موجة" الانفتاح فانفتحت
أبواب الرزق على مصراعيها أمام بعض الناس الذين لم يستعدوا للثراء ولم يعرفوا كيف
يتعاملون معه وكانت أسرتي من بين هؤلاء الناس بكل أسف .. فقد سقط المطر فجأة
وبغزارة فوق رأس أبي وخلال سنوات محدودة فتحول المصنع الصغير إلى مصنع كبير جدا ثم
أنضم إليه مصنع آخر.. ثم معرض في وسط المدينة ولاحق ذلك بالطبع تغيير كبير فى
حياتنا فانتقلنا من شقتنا العادية فى الحي الذي نشأنا فيه إلى شقة كبيرة جدا إلى
حد لم أكن أتخيله إذ لم أكن أعرف أن هناك شققا يمكن أن تجري فيها الخيل لو أرادت
حتى إنتقلنا إلى هذه الشقة فى أحد الأحياء الراقية .. وقد تم تأثيث الشقة بأثاث
فاخر بكل الكماليات التى تخطر على البال وأصبح لنا بدلا من سيارة أبي القديمة جراج
من السيارات تخصني فيه سيارة ولأختي واحدة ولأمي ثالثة وتتقدمها بالطبع "زلمكة"
فاخرة لأبي أي مرسيدس بلغة هذه الأيام العجيبة.
وكما تغير مسكننا فقد تغيرت
حياتنا أيضا فاشتركنا فى عضوية أحد الأندية الكبيرة, ومن خلال هذا النادى تعرفت أمي
على شلة سيدات الأعمال وسيدات المجتمع.
فأصبحت "شلة الأنس" هذه هي كل حياتها , فهي تلازمنا في بيتنا فى أوقات كثيرة أو تلازمهن أمي في بيوت بعضهن فى الأوقات الأخرى, وبالتدريج تحولت شلة الأنس إلى "شلة قمار" فيلعبن القمار فى بيتنا وفى بيوت الصديقات فى الصباح والظهر وفى الليل حتى الفجر وهكذا, وساعد على ذلك "طناش" أبي وانشغاله التام فى أعماله الواسعة حتى فوجئنا منذ عامين بزواجه من مضيفة جوية في سن أختي وبأنه أصبح يقضي معظم أوقاته معها وبأنه لم يضن عليها بثروته فأصبحت لها معظم ممتلكاته وكانت أختي قد أنهت تعليمها وتزوجت ورحلت مع زوجها إلى إحدى البلاد العربية أما أنا فقد انعكست علي هذه الأحداث فى تعثري لعامين متتاليين في الدراسة لكن لم يكن لي دور في هذه الحياة ولم أشارك فى شئ لأني كرهت المال وتشاءمت منه وأحسنت أنه السبب فى تهدم هذه الأسرة التى كانت سعيدة حتى وقت قريب.. لأن الشئ إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.. وتصورت أن ما حدث هو نهاية المطاف بالنسبة لهذه الأسرة لكني فوجئت بمفاجئه قاسية أخرى هى التى دفعتني للكتابة إليك, فقد كانت أمي تستقبل إحدى صديقات العهد الجديد فى بيتنا فدخلت الصالون عليهما فجأة فوجدت أمي تضع شيئا أبيض اللون على ظهر يدها وتستنشقه بقوة وعمق وهي مغمضة العينين وكذلك تفعل صديقتها وأمامها آثار المصيبة من "تذاكر" السم الأبيض.
ولــكـــاتــب هـــذه الـرســالــة أقــــول:
الحل أولا فى يد أبيك اللاهي
عنكم بحياته الجديدة فهو الذى يملك ارغامها على العلاج ويملك أن يحملها قسرا إلى
إحدى المصحات وأن ينفق على علاجها حتى تبرأ من دائها كما يملك أيضا أن يزيل
الأسباب التى ساعدت على تدهورها , فيرجع عن نزوته ويعود إليكم فيملأ فراغ حياتها
ويمارس مسئوليته التى تخلى عنها فى رعاية زوجته وحمايتها من الخطر .. فدور الزوج
والأب لا يقتصر على الإنفاق فقط ثم ممارسة "الطناش" عما يرى، من بوادر
التدهور انشغالا بأعماله أو برغباته الخاصة لأنه إذا فعل ذلك عامدا أو لاهيا
انفتحت أبواب الغواية على مصراعيها أمام البعض إلا من استعصم بدينه وخلقه وهذا هو
الجانب الآخر من مسئولية أمك عن تدهورها فهي لم تصمد أيضا لاختبار الثراء وهطول
المال كالأمطار الغزيرة فجأة.. فخلعت نفسها من مجتمعها القديم واندفعت وراء حياة
الفراغ والملل التى هوت بها إلى القمار ثم إلى بئر الإدمان ومسئوليتها عن ذلك لا
تقل شأنا عن مسئولية أبيك فقد كانت تستطيع أن تجد لحياتها معنى بشكل آخر.. وكانت
تستطيع أن تشكر ربها على نعمة المال بأن توظفه فيما يخدم الحياة وينقذ الملهوفين
ويرسخ احترامها لنفسها حتى ولو كان الزوج لاهيا فتسد فراغها بما ينفعها وينفع
الآخرين وليس بما يضرها لكنها لم تفعل واستسلمت هي الأخرى للحياة الخالية من أى
معنى وأية قيمة إنسانية فتحول المال بين يديها إلى نقمة بدلا من أن يكون نعمة
وغابت السعادة والأمان والاستقرار عن حياتكم وكثر المال فى أيديكم مقرونا به الكدر
كما كان يقول العقاد العظيم وتمزقت الأسرة بدلا من أن يجتمع شملها وتتهيأ لها كل
أسباب السعادة.
وهكذا يختبر ربك بعض الناس بالنعم كما يختبر آخرين بالمحن فينجح من ينجح ويرسب من يرسب ولكل حسابه يوم الحساب, لكن هذا حديث آخر , فأسرع الآن إلى أبيك يا صديقي وصارحه بحقيقة الموقف .. وأخرج من سلبيتك وشاركه العمل على إنقاذ أمك بكل الوسائل وعد إلى دراستك وكليتك لأنه لا معنى لانصرافك عنهما.. وأنت الأمل الباقي الذي لم يفسد المال روحه ومثالياته فاخرج عن دور الرافض السلبي إلى دور المشارك الإيجابي والحارس الذي يدفع عن أمه وحياته هذا البلاء .. وتذكر دائما ما جرى لأسرتك لأنها لم تصمد لفتنة المال لكى تتعامل معه فى المستقبل مسلحا بهذا الدرس الثمين فتنجح فى الاختبار وتحقق لنفسك السعادة والأمان بإذن الله.
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر