البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


أنا شاب في الخامسة والثلاثين من عمري .. موظف بإحدى الشركات .. عانیت الكثير حتى وجدت الإنسانة المؤمنة بربها والحافظة لكتابه وكانت زميلة جديدة بالشركة فجمع الله بين قلبينا وقررنا أن نتزوج .. وكأي شابين لا سند لهما في الحياة بدأنا الصعاب من أجل الزواج وكانت البداية غير مستحيلة فلدي شقتي التي استأجرتها بأحد أحياء القاهرة حين جئت إليها من مدينتي الصغيرة للدراسة واحتفظت بها بعد التخرج وأصبح علي أن أقوم بتأثيثها .. فحصلت من الشركة على سلفه تخصم على أقساط من راتبي وحصلت خطيبتي على سلفه مثلها وعقدنا قراننا وبدأنا نؤثث الشقة فنفدت النقود سريعا قبل أن ننتهي من تأثيث نصفها واقترضت من صديق لي يعمل بالدول العربية مبلغا من المال على أن أرده له على أقساط سنوية فأدفع له قسطا حين يأتي في أجازته كل صيف .. وأثثنا الشقة وتزوجنا ونظمنا حياتنا بحيث نوفر مما تبقى لنا من راتبينا مبلغ کل شهر ندخره بعيدا عن أيدينا فيجتمع لنا مع قدوم الصيف أول قسط ونؤديه لصديقي وسعدنا بحياتنا هكذا رغم جفافها وتقشفها وقلنا لنفسينا إن هذه هي آلام البداية.. وأن كل إنسان لابد أن يبدأ بالكفاح وبالصبر إلى أن يبني حياته ثم يستريح ويجني ثمار كفاحه .

 

 ورضينا بذلك وواظبنا بحرص شديد على توفير هذا المبلغ ثم شكت زوجتي من أن الحمل قد تأخر عدة شهور فاصطحبتها إلى طبيب يفحصها فإذا به يفتح علينا أبواب الجحيم من تحاليل واشعات وعمليات جراحية .. وإذا بالمبلغ الذي ادخرناه لأداء الدين قد تبخر في عدة أسابيع .. وانزعجت وقررت أن ابحث عن عمل إضافي لأوفر راتبه للصديق القادم في الصيف .. وبدأت أخرج من عملي كل يوم فأطوف بالمكاتب والشركات بحثا عن عمل إضافي ومن أمام الباب الخارجي للشركة كنت أتلقى الرد بالرفض .. وظللت على هذا الحال عدة أسابيع لم أيأس خلالها من الطواف على المكاتب والشركات يدفعنی خیال صدیقی الذي ينبغي أن أقابل إخلاصه لي بما يستحقه من وفاء .. ويدفعني أيضا شبح جديد فلقد حملت زوجتی والحمد لله لكن الطبيب انذرنا بأن احتمال أن تلد ولادة غير طبيعية كبير، فأصبح لزاما علي أن استعد للاثنين.

 

وذات يوم أحسست بالإجهاد من كثرة المشي بحثا عن عمل وبالجوع فجلست في مقهى لأشرب كوبا من الشاي وآكل ساندوتش ، وتصفحت الجريدة التي احملها منذ الصباح فوقعت عيني على إعلان لمكتب محام

يطلب ساعيا .. فلم أتردد لحظة وغادرت المقهى إلى مكتب المحامي وقابلت المسئول وأبديت له رغبتي في العمل بهذه الوظيفة .. فتردد طويلا بسبب مؤهلي فأنا احمل مؤهلا تجاريا عاليا وحاصل على دبلومات ودورات عديدة في مجال الاستيراد والتصدير وكاد يصرفني رافضا لولا أن رويت له بعض ظروفي وأكدت له حاجتي لهذا العمل فقبلني وبدأت العمل ساعيا في هذا المكتب فأصبحت اذهب إلى عملي في الشركة في التاسعة صباحا وأغادرها في الثالثة بعد الظهر فأعود مع زوجتي للبيت لأتناول طعام الغداء وأجالسها لمدة دقائق ثم اخرج إلى مكتب المحامي لأكون فيه في الخامسة مساء، فأبدأ عملي بمسح بلاط المكتب وتنظيفه ثم أكون تحت الطلب لأداء أية خدمة يطلبها صاحب المكتب حتى منتصف الليل وأحيانا إلى ما بعد الساعة الواحدة صباحا.

 

 وتحملت هذا العناء راضيا .. وتحاملت على نفسي حتى لا افقد هذا الوظيفة .. إلى أن جاءت زوجة المحامي إلى المكتب ذات يوم ودخلت لأقدم إليها الشاي في مكتبه ، فطلبت مني شراء بعض الحاجيات والذهاب بها إلى البيت غدا ، وفي اليوم الثاني بعد أن قمت بتنظيف المكتب سمح لي المحامي بالانصراف لشراء الأشياء المطلوبة .. واشتريتها وتوجهت لبيته، وسلمتها لزوجته من باب الشقة فطلبت مني الدخول لمحادثتي

في أمر هام .. فدخلت فإذا بها تطلب مني مراقبة تصرفات زوجها خاصة مع المطلقات اللاتي يتعاملن معه كمحام وإبلاغها بكل ما اشك فيه فقلت لها إني ساع ولا يحق لي دخول مكتبه إلا إذا سمعت الجرس يستدعيني فطلبت مني أن انصرف .. وخشيت أن أتورط في مشاكل أنا في غنى عنها فاعتذرت .. فحاولت إقناعي بأنها سوف تساعدني في بعض المبلغ الذي احتاج إليه وأنها تعرف قصتي .... الخ .

 

فأصررت على الاعتذار بأدب وانصرفت ، ومن ذلك اليوم بدأت تسيء معاملتي وأصبحت كلما جاءت إلى المكتب تنتقد نظافته وترفع صوتها علي أمام الزبائن .. ثم ثارت مرة وحاولت أن تصفعني على وجهي لولا أنني تراجعت بعيدا عنها وأنا أكاد انفجر من القهر والغيظ والإحساس بالمهانة وبعد انصرافها شكوت لزوجها فقال لي إنها صاحبة المكتب وكل شيء وطالبني بالصبر عليها وحاولت ذلك فعلا لكنها تمادت في تطاولها علي فلم استطع الاحتمال أكثر من ذلك وتسلمت راتب الشهر وتركت العمل .

والآن أحس بأن الأيام تمضي بسرعة غريبة والصيف يقترب والصديق سيعود في أجازته .. وولادة زوجتي سوف تتزامن مع عودة صديقي .. فهل أجد مكانا لي في مفكرتك الحمراء عسى أن يكون فيها عمل إضافي لإنسان لا يريد أن يكون عاطلا ولا متسولا ويريد أن يسدد دينه بشرف ويواجه نفقات ولادة زوجته كرجل .

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إن لم يكن فيها مكان لشاب مكافح عفيف لا يريد أن يكون متسولا ولا عاطلا ويؤمن بأن على كل إنسان أن يبدأ رحلته بالكفاح إلى أن يبني حياته ويجني ثمار تعبه .. ويرغب في أن يؤدي دینه بشرف ، ويواجه نفقات ولادة زوجته كرجل .. ومن عائد عمله ولو تكبد المشاق . وواصل الليل بالنهار في عمل شريف متصل مهما كان مرهقا ومهما كان نوعه، فلمن يكون فيها مكان إذن ؟ بل ومن أحق بالتأييد والمساندة والإعجاب وتقديم هذه الخدمة البسيطة له منك ؟ تفضل بزيارتي مساء الاثنين القادم ولا تتردد وسوف احرق هذه المفكرة إن لم تنجح في توفير عمل مناسب لك بأمر ربك إن شاء الله.

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات