الموعد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أكتب لك بعد أن قرأت فى بابك عدة رسائل تحكي عن نفس مشكلتي .. فأنا سيدة عمري 35 عاما تزوجت منذ 15 عاما عقب حصولي على الثانوية العامة من رجل يكبرني بعشر سنوات وسافرت عقب زواجي معه إلى إحدى الدول العربية وفى الغربة التى كنت أعايشها لأول مرة عرفت معنى الحب والإخلاص والطيبة مع زوجي .. فقد كان رجلا بمعنى الكلمة فبادلته حبا بحب ووقفت إلى جواره دائما أساعده على ادخار مرتبه بإسمه واشتري ما أريد بأقل الأسعار من السوق لكيلا ننفق الكثير.. ومضت 3 سنوات سعيدة للغاية ثم بدأت أشعر بالفراغ والملل ففكرت فى الإنجاب وذهبت إلى طبيب ففحصني وأجرى التحاليل والإشاعات ثم قال لي أن رحمي صغير جدا فأحسست بحزن لم أشعر به من قبل طوال حياتي وذهبت مهمومة إلى إحدى صديقاتي ورويت لها ما حدث فنصحتني بأن أكتم الأمر عن زوجي .. لكني لم أعرف ماذا أفعل فذهبت إلى طبيب ثان وثالث حتى بلغ عدد الأطباء الذين استشرتهم وفحصوني 20 طبيبا بالعدد قرروا جميعا أني طبيعية لكني مع ذلك لم أصدق سوى الطبيب الأول.
ومر 12 عاما من زواجي بلا حمل ثم حملت لأول مره منذ 3 سنوات فكانت فرحتي وفرحة زوجي بهذا الحمل لا توصف وكان زوجي يتفرغ لرعايتي فهو في خارج البيت يحضر لي أشياء خاصة بي وفى داخل البيت يخدمني ويرعاني ويأمرني بعدم الحركة ويصنع لي الشاي ويرفض أن أقف فى المطبخ ويشتري الطعام جاهزا من السوق ولا يريد مني سوى أن أرتاح وأنام واتفرج على التلفزيون.
وسعدت به كما سعدت معه طوال حياتي .. وذات صباح نهضت من نومي في طريقي إلى الحمام فوجدت جنيني بين قدمي فأصبت بصدمة شديدة وانهرت وحزن زوجي واعتزلت الناس لا أتكلم مع أحد ولا أكتب إلى أهلي لفترة طويلة حتى حملت مرة أخرى بعد عام فكتمنا أنا وزوجي فرحتنا هذه المرة ولم أقل لأحد أنني حامل وحرمت نفسي من الحركة ورؤية الناس وفى صباح اليوم الأول من الأسبوع الثامن عشر للحمل استيقظت من نومي مبكرة وذهبت للحمام فإذا بجنيني مرة أخرى وفى نفس الموعد بالضبط بين قدمي لا يربطه بي سوى الحبل السري فصرخت واستيقظ زوجي من نومه منزعجا وحملني إلى المستشفى ورحت بعدها فى غيبوبة ولا تتصور مدى ما أحس به زوجي من قهر ويأس وهو يمسك بهذا الجنين بين يديه .. إذ ما أصعب أن يمتلك الإنسان ما يريد ثم يواريه بيديه التراب بعد لحظات.
ومرت أيامنا بعد ذلك حزينة كئيبة حتى حملت للمرة الثالثة بعد عام آخر وتأرجحت كل يوم بين اليأس والرجاء فقلبي يخفق بالأمل وذكرياتي المؤلمة تعيدني إلى اليأس وبين هذا وذاك مضت الأسابيع الأولى حتى جاء الموعد المحدد بالضبط فوجدت رحمي ينفجر داخلي مثلما تنفجر البالونة ثم شعرت بالجنين يتحرك بين رجلي لينزل ويذهب إلى حيث سبقه شقيقاه من قبل.. وبكيت كثيرا وحزنت لزوجى أكثر مما حزنت لنفسي , لأنه أعطاني الكثير في غربتي ولم أعطه أنا شيئا سوى الحزن واليأس وأن ضميري يعذبني من أجله وهو من كان يعمل لي كخادم أثناء حملي .. فهل أصارحه بالحقيقة أم أكتمها عنه كما كتمتها طوال هذه السنوات .. وهل 20طبيبا لا يعرفون حقيقة حالتي وطبيب واحد فقط هو الذي عرفها من أول كشف ثم هل أترك هذا الزوج الطيب وأدعه لحياته أم أستمر فى الحمل لأتعذب من جديد ثم أصدم وأنا أرى أملي أمامي يسعى إلى التراب.
ولـكاتــبة هــذه الرســالــة أقـــول :
ليس في الأمر سر تكتميه عن زوجك ويستحق أن يعذب ضميرك من أجله فهو يعرف عن ظروفك مثلما تعرفين وأكثر ومن المؤكد أنه تحدث مع أطباء فى المستشفى ومع غيرهم وعرف سبب عدم تحقق الأمانة حتى الآن .. فهوني على نفسك ولا تعذبيها بهذا السر الوهمي الذي يعرفه بكل تأكيد ثم هو بعد ذلك لم يبد تذمرا ولم يرغب فى مفارقتك ومازال لك الزوج المحب الحنون وسوف يبقي كذلك إن شاء الله .. فلماذا تفكرين في هدم المعبد لسبب لا ذنب لك فيه ولم تريديه لنفسك لكنها إرادة الله التي لا راد لها.
إذا كنت تجزعين من حزنه فى اللحظات الأليمة التى تعقب ضياع الأمل فلا مبرر لذلك لأنه أمر طبيعي فى مثل هذه الأحوال ولأن من حقه كبشر أن يحزن كما هو من حقك تجاهه ولأنه لا يتجاوز الحزن إلى الشكوى والأنين والتفكير فى حياة أخرى.
تسألينني بعد ذلك هل تكررين التجربة والعذاب مرة أخرى وأقول لك إن ذلك أمر يحسمه الطبيب وحده فاستشيراه معا ولا تعملا بغير مشورته فإن كان ثمة رجاء فلا مانع من التمسك بالامل وإن كان غير ذلك فتمسكا بحياتكم معا وتلمسي سعادتك فى حب زوجك ووفائه لك وحدبه عليك ولاشك أنه سوف يختار سعادته معك لأن السعادة هدف عزيز المنال لا يستطيع عاقل أن يضحي به جريا وراء أمل فى علم الغيب وحياة أخرى لا يضمن هناءه فيها والعمر لا يتسع لمزيد من التجارب يا سيدتي بعد أن يسكن القلب إلى شريكه ووجد معه سعادته حتى لو كانت غير مكتملة .. إذ متي اكتملت كل أسباب السعادة لإنسان ولكل شئ إذا ما تم نقصان كما يقول الشاعر.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر
1988
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر