الكمين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أقرأ فى مقدمة الرسائل التى
تنشرها كثيرا هذه العبارة "نشأت فى أسرة بسيطة أو أسرة متوسطة أو أسرة متحابة"
.. فأتوقف طويلا عندها .. وأفكر ماذا أستطيع أن أكتب لك لو أردت أن أقص عليك قصتي,
وأي صفة أختارها لأسرتي التي نشأت بها, وأنا لا أعرف منها أحدا سوى أمي التي وجدت نفسي
وحيد معها فى مدينة كبرى لا أرى غيرها ولا أعرف من أقاربها أحدا !
وحين أدركت الحلم عرفت منها
أنها ضاقت بالحياة مع أبي في إحدى قرى الساحل ففرت منها ذات صباح حاملة وليدها
معها إلى هذه المدينة الساحلية وكنت أنا يا سيدي هذا الوليد الوحيد.
وفى المدينة أستأجرت أمي غرفة
وخرجت إلى الحياة لتكسب رزقها ورزقي وأدخلتني المدرسة, فاختلطت بأطفال يتحدثون عن
آبائهم ولا أجد أنا من أتحدث عنه وعرفت حقائق الحياة القاسية وأنا بعد صغير فأمي
تعمل حينا وتتعطل فى احيان أخرى ومضت بنا الحياة هكذا سنوات حصلت خلالها على الشهادة
الإعدادية والتحقت بإحدى المدارس المتوسطة وحصلت خلالها أمي على الطلاق من أبي بطريقة
لا أعرفها حتى الآن وتزوجت من رجل متوسط العمر يقيم بشقة صغيرة ويعمل موظفا , فتركت
الغرفة واستقرت بنا الحياة معه عدة شهور, ثم صحوت ذات يوم من نومي فلم أجدها فى
الشقة .. وإنما وجدت الرجل يجمع ملابسي القليلة ويعطيها لي فى كيس ويقول لي أنه
تشاجر مع أمي خلال الليل وألقى عليها اليمين .. فخرجت من البيت مع أول ضوء وتركتني
وراءها وأن علي أن أخرج الآن من الشقة وأن أبحث لنفسي عن مأوى لأن أمي قد انصرفت
ولن تعود ولم أصدق أن تتركني أمي وحدي بلا معين وأنا نائم, لكن الواقع المر كان
صريحا ولا يحتمل أى تأويل .. فأخذت كيس الملابس وكتبي المدرسية ونزلت إلى الشارع
فى السادسة صباحا لا أعرف أين أذهب .. ولا لمن ألجأ .. وأسأل نفسي ألم أكن أستحق
على الأقل أن تنبئني أمي بعزمها على الرحيل وأن تدلني إلى كيفية العثور على أبي
لعلي أجد لديه الحماية بعد أن تتركني وحيدا.
وسرت فى شوارع المدينة الخالية
فى الصباح المبكر ارتجف من البرد وأفكر ماذا يستطيع أن يفعل صبي مثلي عمره 15 سنة
بلا أب ولا أم ولا أقارب ولا مأوى, ولا مورد للرزق واستغرقت فى أفكاري فلم أشعر بدموعي
ولم أفق إلا على صوت بواب عجوز يقف أمام عمارته يسألني مالك يا ابني .. فتنبهت له
بغير تفكير وجدت نفسي أقول له .. هل أستطيع أن أترك عندك هذا الكيس حتى أذهب
للمدرسة وأعود ورحب الرجل بأريحية .. وسألني من جديد عما يبكينى فرويت له بإختصار
قصتي فاستمع لها متأثرا ثم دعاني للإفطار معه, وأعطاني عشرة قروش للمواصلات وقال لي
أذهب إلى مدرستك وليدبر الله أمرك بعدها.
وذهبت إلى المدرسة وأمضيت
النهار فيها وعدت إلى البواب الطيب فوجدته قد علق ملابسي على مسمار فى غرفته
الصغيرة .. وبادرني حين رآني بأن قال لي أنني سأقيم معه إلى أن يقضي الله أمرا كان
مفعولا .. وطالبني بالاجتهاد في المدرسة لكي أتخرج وأجد عملا .. وهكذا وجدت المأوى
بعد أن تصورت منذ ساعات أن أرض الله قد ضاقت بي وعشت مع هذا الرجل العطوف واعتبرته
أبي وساعدته في أداء واجباته من مسح السلم إلى قضاء طلبات الجيران .. وحاولت دائما
ألا أكلفه شيئا فوق طاقته فمن قروش السكان التى يعطونها لي كلما أديت لهم عملا
بدأت اشتري بعض الطعام ثم واجهتنى مشكلة الكتب والكراريس وأعفاني الزي الموحد
للمدرسة من مشكلة الملابس .. فارتديت زي المدرسة فى النهار وفى الليل واجتزت
امتحان السنة الأولى ووفقنى الله وانتقلت للسنة الثانية وفى الصيف عملت فى كل عمل
استطيع أن أكسب منه قرشا حلالا وجاء العام الدراسى الثاني فتفتق ذهني عن وسيلة
جديدة لكسب الرزق فادخرت بضعة جنيهات وبدأت أنهض مبكرا كل صباح ثم أذهب إلى الفرن
لأشتري 30 رغيفا من الخبز الإفرنجي وبعض الجبن والطعمية ثم أصنع السندوتشات وأضعها
فى حقيبة كتبي وأذهب للمدرسة فأبيعها لزملائي الطلبة في الفسحة .. وأكسب في كل
ساندوتش قرشا أو قرشين.
وانتظمت فى هذا العمل وواظب
زملائي على التعامل معي إما رغبة فى مساعدتي وهم جميعا يعرفون ظروفي, وإما
لأن"بضاعتي" أرخص قليلا مما يقدمه كانتين المدرسة من ساندوتشات, وبهذه
الطريقة واجهت ظروفي واستطعت أن أشتري القليل مما أحتاجه من كتب وكراريس واعتمدت
على نقل ما لا أستطيع شراءه من كتب.
وذات يوم كنت أقف فى فناء المدرسة أبيع الساندوتشات لزملائي مستترا لأن ذلك ضد اللوائح فى المدرسة لتعارضه مع وجود مقصف يقدم نفس الخدمة فلم أشعر إلا وعدد من فراشي المدرسة يحيطون بي كما يحيط رجال الشرطة بموزع مخدرات ثم يطبقون علي ويخطفون الحقيبة ويحاولون جري معها إلى غرفة المدير فقاومت قليلا لكيلا تثبت علي الجريمة .. وانفرطت الحقيبة فسقطت الساندوتشات على الأرض ورأيت رأسمالي يضيع في الرمل والفراشون يتجاذبونني والتلامذة يحيطون بي فشعرت بمهانة لم أشعر بها فى حياتي رغم كل شقائها وانفجرت فى البكاء بغير وعي وعجزت عن المقاومة فاستسلمت لهم فدفعوني ومعي جسم الجريمة إلى مكتب المدير وسرت معهم متوقعا فصلي من المدرسة مارا بحجرة التوجيه الاجتماعي فنهض أحد الأساتذه ليرى ما يحدث وفهم سريعا ما يجري فأشار للسعاه باصطحابي إليه فتوجهوا بي إلى مكتب التوجيه بدلا من مكتب المدير ودخلت مرتعبا فهدأني الأستاذ الأخصائي وحاول بكل جهده أن يهدئ روعي حتى هدأت قليلا ثم سألني عن قصتي فاسترحت إليه وإلى زميله فى المكتب ورويت لهما قصتي وصدقا كل كلمة نطقت بها وطمأنني إلى أني لن أفصل ولن أعاقب بأي عقاب وعرفت من الحديث معهما أن"سري" كان قد تسرب من فترة وأن إدارة المقصف قد رتبت لي هذا الكمين لكنهما أظهرا لي تعاطفهما معي وسعى الأستاذان لي بتصريح من مدير المدرسة للعمل في مقصف المدرسة لإعداد السندوتشات بأجر يومي قدره 25 قرشا .. وواصل الأستاذان اهتمامهما بي ومساعدتي في كل ما أواجهه من مشاكل.
ولــكاتـب هـذه الرسـالة أقـول:
إذا كان يحق لأحد أن يحلم بشئ
من ذلك فهو أنت بكل تأكيد وأنت الشاب المكافح الذى يقف منفردا فى الحياة كالشجرة
وحيدة فى الصحراء تعصف بها العواصف ولا
يحميها من الانهيار سوى قوة جذورها .. فلا شك أن جذورك أنت أيضا قوية وطيبة وخيرة
لهذا فقد عصمتك من الانحراف والانهيار وهدتك إلى طريق الكفاح الشريف فى الحياة
وهيأت لك من بين زحام الحياة هذا العجوز الطيب الذى وجدك "يتيما" فآواك
لأنك فعلا من يتامى الحياة الحقيقيين الذين قال عنهم أمير الشعراء.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذى تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا
بعد أن تخلت عنك أمك سامحها
الله .. وتقطعت الأسباب بينك وبين أبيك منذ طفولتك كما هيأت لك أيضا هذه الجذور
الطيبة هذا الأستاذ الفاضل الذى تفهم ظروفك وأعانك على مواجهتها يوم الكمين
المشئوم ولو أنصف من أعدوه لك لرفقوا بك واستقصوا أحوالك وأعانوك عليها بغير حاجه
إلى هذا المشهد البوليسي المؤلم , لكن ماذا نقول ونحن نتصرف أحيانا كالحمقى فنتغاضى
فى بعض الأحيان عن الكبائر ونجيش الجيوش لمواجهة الصغائر كأن حال الدنيا سوف ينصلح
بذلك.
لكن هذا شئ آخر فلندعه جانبا
لأتحدث معك عن مستقبلك فأقول لك أنه لا شك أن لك أسرة وأبا فى مكان ما فى الأرض,
لكن المشكلة هي كيف يجتمع الشتيتان وكلاهما لا يعرف الطريق إلى الآخر, فإذا رقت
الحياة وما أجدرها بأن ترق لك بعد كل هذا العناء فلربما تسهم هذه الرسالة فى إرشاد
أبيك إليك ولعله يتطلع الآن للتواصل معك, كما تتطلع أنت إليه وأرجو أن تسعني
الظروف بأن أكون دليله إليك في يوم من الأيام لكن بريد الأهرام لن ينتظر تحقق هذا
الأمل الواهي وإنما سوف يكون مسئولا عنك بإذن الله من الآن وحتى تتخرج وتجد العمل
والمأوى وسوف أكتب بشأنك إلى أستاذك الفاضل الذي كتب إلي عنك شارحا لي ظروفك أيضا
لأرتب معه خطوات تنفيذ هذه المسئولية التى يعتز بها بريد الأهرام كما يعتز بك
وبصلابتك ورجولتك وكفاحك الشريف فى الحياة .
فلتهدأ نفسك يا صديقي فلسوف
تشعرك الحياة بأن لك أكثر من أب وأكثر من أسرة وسوف يقود الله خطاك إلى بر الأمان
والكرامة والاستقرار إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر
1988
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر