الملفات القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
أكتب لك قصتى وأرجو أن تقف
بجانبي .. فمنذ سنوات التقيت بشاب ممتاز فأحسست بالحب يدب فى عروقي وقلبي تجاهه
ولمست فيه كل ما كنت أتمناه فى شريك العمر من الحنان والصدق وبعد فترة قصيرة من
تفاهمنا وإرتباطنا أردت أن تكون حياتنا قائمة على الصدق والصراحة والثقة فصارحته
بكل تفاصيل حياتي قبل أن ألتقي به وقبل أن يجمع الله بين قلبينا وقصصت عليه كل ما
مر بي في حياتي , فاستمع إلي بكل اهتمام وسألني عن بعض التفاصيل فأجبته بكل الصدق
والإخلاص .. مطمئنة إلى أنه سوف يزداد حبا لي وثقة في, ومضت عدة أيام ثم سألني
المزيد من التفاصيل فأبلغته أني قد صارحته بكل شئ ولم يبق لدي ما أخفيه عنه, فتعرضت
لإهانة شديدة منه وغضبت فاعتذر واسترضاني وسامحته ثم تكرر ذلك عدة مرات وفى كل مرة
أتعرض للاهانة بل والتعدى بالضرب والغيرة العمياء وبعد كل موقعة يعتذر لي ويبرر ما
فعل بحبه الكبير لي وبغيرته الشديدة علي .. وصبرت عليه وتحملت كل شئ منه بسبب حبه
الذى تملكني وبسبب حبه لي أيضا وتزوجنا وكان زواجا سعيدا بكل معنى الكلمة كله
تفاهم وكفاح ونجاح فى عمله وفى حياتنا وانجبنا بنتين جميلتين وصلت كبراهما الآن
إلى الصف الثانى الثانوي وصغراهما إلى الشهادة الابتدائية .. وكانا دائما والحمد لله
من المتفوقات ولم تضعف السنوات خيوط الحب الذى تجمعني بزوجي بل زادتها العشرة
الطويلة والأبناء قوة ومتانة, إلى أن حدث شئ لم يخطر لي على بال.
فقد بدأ زوجي يسألني بدون
مقدمات عما رويته له فى فترة الخطبة من 18 سنة .. فتعجبت من السؤال .. واعتبرته
مزاحا لكني وجدته جادا فأجبته بالصدق .. فإذا به يحقق معي من جديد في كل كلمة
رويتها له .. ويراجعني فيها ويتهمني بالكذب .. وبأني أخفيت عنه أشياء لم أقلها له
وينفعل ويبكي ويصرخ ويتهمني بأنني خدعته ويحول حياتي وحياته إلى جحيم, وصبرت مرة أخرى
واعتبرتها هفوة عابرة .. لكنه عاد يتحدث فى نفس الموضوع ويحقق معي ويتهمني بأشنع
الاتهامات حتى كاد يصيبني الجنون .. فهل هذا معقول يا سيدي؟
زوج محترم وسعيد فى حياته يشك
فى زوجته التى عاشت معه 18 سنه تحبه وتتفانى فى خدمته وفى الإخلاص له, بسبب حكاية
قديمة رويتها له قبل الخطبة لكي تبدأ حياتنا على أساس من المصارحة.
إنني مذهولة مما يجري أمامي وأنا أرى بيتي الجميل الذي بنيته على الحب يتعرض للانهيار بسبب غيرة وهمية من ماض لم يعد له وجود وليس فيه ما يسئ لي .
ولكــاتـبة هــذه الـرســالـة أقـــول:
هل من العقل والمنطق أن تتعرض
للانهيار حياة زوجية سعيدة يظللها الحب والتفاهم وتوثق روابطها إبنتان جميلتان
متفوقتان بسبب "رغبة" طارئة استبدت بالزوج لفتح ملف قديم انتهى التحقيق
فيه منذ 18 سنة ؟
إن جريمة القتل تسقط بالتقادم بعد عشرين سنة من
إرتكابها وهناك جرائم خطيرة أخرى تسقط عقوبتها بعد 5 سنوات .. فكيف لم تسقط عقوبة
جريمتك بعد هذا العمر الطويل؟ وأين هي الجريمة أصلا لكي تكون لها عقوبة؟
لقد كنت أمينة معه منذ البداية
فصارحته بما أردت أن يعرفه عنك قبل أن يرتبط بك وأديت الثمن من غيرته وانفجاراته
واعتدائه عليك بالقول والضرب وصبرت وتحملت لأن الحب كان أقوى من كل ذلك ثم عشتما
معا حياة سعيدة موفقة وانجبتما فتاتين , فكيف استيقظ هذا "المارد" فجأة
فى قلبه بعد 18 سنة من المعاشرة الجميلة.
لقد تذكرت وأنا أقرأ رسالتك
عبارة قديمة تقول "إن معظم آلام الإنسان من صنعه هو" ويبدو أنها صحيحة
لأن زوجك هو المسئول بالفعل عن معاناته التي لا مبرر لها وعن هذه الفتنة التي تهد
أسرتك .. فليس في صفحه حياتك معه ما يدعو إلى إستدعاء هذا الماضي البعيد لمحاكمتك
من جديد .. ولا في هذا الماضي نفسه ما يبرر ذلك , وحتى لو كان فيه ما يستحق
المحاكمة فقد حاكمك عنه من قبل ثم ارتضته وارتضاك قبل الزواج وارتبط بك , وليس من
حقه بكل تأكيد أن يحاسبك عليه الآن.
ثم كيف يسمح عاقل لأوهام من
الماضي بأن تفسد عليه حاضره السعيد؟ وهل خلت الحياة من الآلام والمتاعب الحقيقة لكي
نعذب أنفسنا بالوساوس والأوهام القديمة؟
يا سيدي انقذ نفسك من هذا
الجحيم الذى صنعته أنت بنبشك فى الملفات القديمة .. فلن تحذف المعاناة سطرا من سطور حياتنا, ولن تخسر سوى
نفسك وزوجك المحبة وحياتك السعيدة الآمنة وإبنتيك اللتين أسأت إليهما أيما إساءة
بما رويت لهما عنها لأنك بذلك قد اشركتهما فى المعاناة وهززت أمامهما رمز الأم, فكفر
عن هذه الجريمة بإغلاق هذه الصفحة إلى الأبد .. ولا تدع حريق شكوكك يلتهم هذا العش
الجميل .. ولا تذكرني ببيت أبي العلاء المعري الذي تقول شطرته الأولى"حكم
جرى للمليك فينا" .. وقد استشهدت بها وحدها فى رد سابق , أما شطرته
الثانية التى لم استشهد بها من قبل فتقول "ونحن في الأصل أغبياء".
إذ يبدو أننا نكون كذلك فعلا فى
بعض الأحيان.
ألسنا نحن الذين نطالب شركاء
حياتنا بألا يكتموا عنا شيئا عن حياتهم السابقة فلماذا إذن نعذبهم بما إستنطقناهم
به بدعوى أن المصارحة هي أساس الثقة ؟
وإذا كنا نرتكب هذه الحماقة
أحيانا .. ألسنا نعلم الآخرين بذلك دروسا "ثمينة" فى الكذب والغش
والخداع ؟ وهل هذا ما تريده حقا يا سيدي؟
أما أنت يا سيدتي فلا تستجيبي لأية دعوة جديدة للمثول أمام محكمه التفتيش هذه ولا تقبلي مثل هذه المهانة مرة أخرى فليس لديك ما يشينك وتمسكي بموقفك .. واصمدي للمحنة إلى أن تنتهي كما صمدت من قبل فسوف يكتشف سخف القصة كلها بعد قليل .. وليحم الله أسرتك من هذا الاعصار وليحم زوجك من شر نفسه.ّ
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر
1988
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
ّ
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر