نداء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

نداء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

نداء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987



تلقيت فى بريدى هذا الأسبوع هذه الرسالة:

سيدي أسمح لي بأن أطرق بابك  بعد أن سدت فى وجهى كل الأبواب وضاقت بى الحيل .. فأنا فتاة فى الثالثة والعشرين تخرجت منذ عام من كلية نظرية وأبي موظف بسيط بإحدى مدن الأقاليم وأسرتي أسرة صغيرة عادية ..حين كنت فى السنة الثالثة بالكلية تعرفت بزميل لي في السنة النهائية من أسرة بسيطة مثل أسرتي رأيت فيه كل صفات النبل والرجولة والخلق أراد أن يتقدم لخطبتي فرفضت أن يتقدم لي وأنا طالبة لأن أبي سبق أن رفض خطيبا لأختي الكبرى خلال مرحلة التعليم ويرفض الحديث فى الموضوع إلا بعد التخرج , وهكذا طلبت منه تأجيل التقدم لي إلى ما بعد تخرجي وأخفيت هذا الارتباط عن أسرتي.

وخلال ذلك كانت أختي قد تخرجت وعملت فى وظيفة ملائمة فى مدينتنا وتعرفت على زميل لها فى العمل وجدت ميلا إليه, وتقدم لها زميلها ورحبت به أسرتنا وتمت الخطوبة, وخلال فترة الخطوبة تعاون الاثنان على تأثيث شقة وضعا فيها كل ما معهما وكل مرتبيهما حتى أصبحت شقة ممتازة وزفت إليه وبدأت حياتهما الزوجية السعيدة.

أما فتاي "أحمد" فقد تخرج من الجامعة وأدى الخدمة العسكرية ووجد أنه لن يستطيع تأثيث شقة بإمكانياته البسيطة فسعى للعمل فى الخارج ووفقه الله للحصول على فرصة عمل وأراد السفر وأتصل بي عن طريق صديقة لي وأبلغني بنيته للسفر وبمعاهدته لي بأن يكون لي وأن أكون له .. وأراد أن يراسلني خلال غيابه فأستأذنت صديقتي وأمها في أن يراسلني على عنوانهما فوافقا تقديرا لنوايانا الشريفة .. وسافر إلى مقر عمله مصحوبا بالسلامة.

 

وحملت أختي .. وبدأت تعاني من أعراض الحمل ونحن سعداء بأول مولود صغير فى أسرتنا وحين جاءت الولادة أسرع زوجها بحجز غرفة لها فى مستشفى خاص بالمدينة ونقلها إليه وكانت متعبة للغاية وفحصها الطبيب وقرر أنها تحتاج إلى عملية قيصرية , وانتابتنا جميعا حالة من الذعر .. ووقفنا جميعا على باب غرفة الجراحة ترتجف أمي .. وأبي يرتل القرآن وأنا وأخي نبكي .. أما زوجها فقد تحول إلى شبح لا يعرف ماذا يفعل, وبعد لحظات عصيبة خرج إلينا الطبيب يقول مبروك .. بنت زى القمر فانطلقت فرحتنا من عقالها بعد الخوف والفزع .. ولم نلتفت كثيرا للكلمة التالية التى قالها الطبيب بعد ذلك وهي "أدعو للأم بالسلامة" لأننا كنا ندعو لها فعلا .. المهم يا سيدي لم تدم فرحتنا سوى 48 ساعه فقط ثم خمدت إلى الأبد مع انطفاء شمعة حياة أختي الوحيدة .. فرحلت عنا للأبد ورحلت معها السعادة والهناء .. ولا أريد أن أطيل عليك فى وصف حالنا بعدها .. ولا في وصف حال أمي وأبي أو زوجها .. لكني سأقول لك أني عشت أياما تعيسة .. لم يكن فيها أى نسمة راحة .. وقد مرضت أمي ولازمت الفراش .. ووجدت نفسي المسئولة عن رعاية وليدة أختي منذ مولدها لأن أم زوج شقيقتي متوفية فاحتضنتها .. تنام بجواري في السرير.. وأعد رضعاتها .. وأغير لها ملابسها.. وأرقب تغيرات ملامحها.. وأول بسمة ظهرت فى وجهها.. ومتى بدأت تستطيع أن تركز عينيها على شئ إلى آخره .. وحين مضت الأسابيع أصبحت تتعرف علي وتركز عينيها علي وتبتسم لي .. وتستجيب لمداعباتي الحزينة لها.

 

باختصار يا سيدي شعرت بإحساس غريب وهو أني قد رزقت بمولودة لم أعان آلام المخاض فيها .. وأحسست بارتباط غريب بها .. ساعد على توثيقه أني كثيرا ما رأيت شقيقتي الراحلة في أحلامي تطلب مني أن آخذ بالي من ابنتها وزوجها وقد كان لي بمثابة الأخ الأكبر بل والصديق .. بل وأكثر من الصديق .. وقد أشفقت عليه بعد رحيل أختي إذ أصبح فى حاله يرثى لها .. بل أصبح كالمجنون فى كلامه وتصرفاته من شدة الحزن على أختي وبعد ستة شهور من هذه الكارثة علم "أحمد" بما حدث وكتب إلي رسائل عديدة لكني لم أستطع الرد عليه برسالة واحدة لانشغالي بأحزاني وتركت صديقتي ترد عليه بالنيابة عني بكلمات مختصرة عن أخباري.

 

ومضت سنة على رحيل أختي .. ثم جاءت إلى صديقتي تحمل إلي رسالة من أحمد يقول فيها أنه قادم بعد 3 شهور ليخطبني, وبدلا من أن أسعد بالخبر وجدتني مهمومة حزينة .. لأن أمي قد صارحتني قبلها بيومين بأنها تطلب مني قبول زوج شقيقتي زوجا لي ..لأنه كما قالت لن يعيش أرمل طوال العمر ولأنه سيتزوج ذات يوم, ولأنه شاب ممتاز وعلى خلق .. فلماذا نترك "ابنتي" لكي تربيها زوجة غريبة وكل شئ جاهز الشقة التى اختارت كل قطعة فيها أختي .. والزوج الشهم الممتاز الذى يقدرك وتحملين له كل المشاعر الطيبة والابنة الغالية التى لم تنطق كلمة ماما إلا لك.

وأعترف لك أني لم أرفض الفكرة لكني فكرت وقد أدهشني أن وجدت زوج شقيقتي مرحبا بها .. فقد قال لي بعدها بواقعية أنني لو تزوجت كل يوم زوجة فلن أعوض زوجتي الراحلة التي كانت حبي الأول .



 

ولكــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول:

 

لا مبرر للحيرة يا آنستي لأنك قد اتخذت قرارك بالفعل بغير أن تدري, وهو الاستجابة لنداء الواجب وقبول زوج شقيقتك الراحلة زوجا لك , لكي تنشأ "ابنتكما" بين أحضانكما وتواصل الحياة بعد هذه المحنة التى اعترضتها.

فلقد اتخذت القرار حين استمعت إلى الاقتراح لأول مرة ولم ترفضيه بل وجدته قابلا للتأمل والتفكير.. وحين استرحت إلى حديث زوج شقيقتك إليك عن أحقيتك بابنتك من غيرك .. ولم ترفضيه, ولا لوم عليك فى ذلك ولا تثريب بل لعله الحل المريح لكل الأطراف وأنت أولهم في هذه المأساة الأليمة.

لقد كنت على استعداد لأن أقدر أسبابك لو كنت قد قررت عدم الاستجابة لهذا النداء .. والارتباط بفتاك مهما كانت الظروف .. لأني لا أؤمن بالزواج أداء للواجب فقط .. ولا أؤمن بفكرة "الاستشهاد" التى تدفع البعض لقبول الزواج فى حالات معينة ثم يمضون العمر بعد ذلك نادمين وشاعرين بالحرمان ومبررين تعاستهم بأنهم قد ضحوا بأنفسهم فى سبيل الغير!

لكن الأمر مختلف معك يا صديقتي فهناك رضا داخلك بما تتجهين إليه .. وهناك قبول ضمني لشخص زوج شقيقتك الذي جمعت بينك وبينه الأقدار الحزينة فأصبحت ترين فيه الأخ والصديق وما هو أكثر من الصديق .. تمام كما جمعت بينكما هذه الطفلة الجميلة التى لم تعرف لها أما سواك.

فما المشكلة إذن .. المشكلة هي أنك تشعرين بشئ من الذنب تجاه فتاك الذي رحل وأغترب ليجمع تكاليف الزواج منك .. وفي هذا أنت محقة أيضا .. لكنه ليس سببا كافيا لتغيير مجرى حياتك الذى أتجه بالفعل إلى زوج شقيقتك وإلى احتضان ابنته.. فالحق أني لم استشعر من سطور رسالتك أن ارتباطك بفتاك كان قويا من البداية أو أنه بالنسبه لك كان حب العمر الذي لا حب بعده .. فلقد رفضت الرد على رسائله طوال سنة وتركت لصديقتك مهمة مراسلته وإبلاغه بأخبارك, وأكاد أجزم أن مشاعرك تجاهه الآن ليست كما كانت قبل رحيله لكنك تشفقين على نفسك من أن يسئ الحكم عليك أو أن يتهمك بالغدر به .. لكن هناك ظروفا مخففة في حالتك قد تدفعه لتقدير دوافعك النبيلة فى النهاية .. وإلى التماس العذر لأن للأقدار تصاريفها العجيبة يا آنستي وكثيرا ما نخطط لحياتنا فى اتجاه .. ثم تجرف الرياح اشرعتنا فى اتجاه آخر, وهذا أمر ليس بمستغرب لأننا لا نملك من أمرنا الكثير.. ولأن الحياة تغلبنا على أحوال كثيرة, والأيام عموما كفيلة بمداواة الجراح ونسيان التجارب الأليمة.. ولسوف ينسى ويغفر بعد حين لأنه إنسان.. وما سمى الإنسان إلا لنسيه كما تعرفين.

 

فقط أنصحك بألا تتركي الأمر معلقا حتى يعود ويفاجأ بتحولك عنه.. وإنما أنصحك بإبلاغه بذلك قبل عودته.. ليرتب حياته على أساسه وليتخذ قراره بالعودة أو الاستمرار.. وفى كلا الحالتين أرجو أن تعوضه الحياة عنك بمن يسعد بها وتسعد به.. ومن يدري أليس من المحتمل أن تجمع الأقدار بينه وبين صديقتك التي راسلته نيابة عنك لمدة سنة على غير انتظار , كما جمعت الأقدار بينك وبين زوج شقيقتك الراحلة على غير انتظار أيضا.. فيكون في ذلك الحل السعيد لكل الآلام .. صحيح من يدرى بأن ذلك لن يكون ؟؟ّ!!! 

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات