تحت الرماد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

تحت الرماد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

تحت الرماد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

  

أنا يا سيدي رجل في الثالثة والأربعين من عمري اشغل مركزا مرموقا في إحدى الجامعات الإقليمية أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على درجة الماجستير وبدأت عملي عقب أدائي للخدمة العسكرية في هذه الجامعة الإقليمية وبعد فترة قصيرة من عملي تعرفت بزميلة لي وفاتحتها في أمر الزواج .. فطلبت مني مهلة للتفكير قائلة إنها كانت مخطوبة من قبل وانتهت خطبتها بالانفصال وتحتاج إلى بعض الوقت لكي تتخذ قرارها .. ووافقت على إعطائها مهلة للتفكير وبعد ثلاثة شهور صارحتني بموافقتها فتزوجنا وعشنا حياة هادئة حتى أنجبنا طفلنا الأول بعد عام من الزواج فبدأت مطالباتها لي تتوالى .. فطلبت أن أوفر لها شقة على النيل في مدينتنا وأن اشترى لها سيارة .. وبدأت تهددني بترك البيت وطالبتها بالصبر إلى أن تتهيأ لي الظروف لتحقيق كل أحلامها في الحياة .. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى هيأ الله لي فرصة العمل في الخارج فسافرت إليه واشتريت لها سيارة باسمها وغيرت لها كل أثاث الشقة .. واستقرت أحوالنا فرزقنا الله بطفلنا الثاني .. ثم بطفلتنا الثالثة .. وتمكنت بعد مجيء الطفلة الأخيرة من شراء شقة على النيل وانتقلنا إليها .. وارتحت إلى أني قد تمكنت من تحقيق كل أحلامها .. ففوجئت بزوجتي تطلب مني طلبا جديدا .. هو أن أطلقها : لماذا ؟ .. لأنها "كما صفعتني بها بلا رحمة" تكرهني ولا تطيق الحياة معي وتريد الطلاق .. لأن خطيبها الأول كما قالت لي أيضا "مستثيرة إحساسي بالكرامة لأطلقها" قد طلق زوجته .. وتريد العودة له.



 
 ولكاتب هذه الرسالة أقول :

لو كان الأمر .. أمر ضعف بشري عابر أو أمنية طارئة بتصحيح مسار الحياة والعودة للخطيب الأول لما استمر عامين طويلين وتصاعد بهجر البيت بلا رحمة .. إنه أعمق وأكبر من ذلك بكل أسف .. ويبدو أن الحياة بينكما لم تستقم من الأصل ولم ينجح الأبناء في تعميق روابطكما .. فكان هذا الحلم القديم في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء .. وكان الهجر والإصرار عليه .. وهذه هي جريمة من تقبل الزواج بغير اقتناع كامل بمن ارتبطت به أو من باب التعويض النفسي فقط عما فشلت في تحقيقه من أحلام وهي جريمة مضاعفة متعددة الضحايا .. أولهم الأبناء وثانيهم الزوج الذي يقبل على التجربة مدفوعا برغبته المشروعة في السعادة بغير أن يتصور أن تحت الرماد نارا لم تنطفئ وتنتظر الفرصة لكي يكون لها ضرام يهدم أسرة ويظلم زوجا ويشرد أبناء .

 

عموما يبدو أنه لا مفر مما تكرهه لنفسك ولأطفالك وهو الانفصال .. لأن من لم تتوقف عند التفكير في مصير أطفال صغار ثلاثة لن يردعها رادع عن المضي فيما تريده .. واستمرار تعليقها بغير طلاق لا يعني سوى شيء غیر کریم أنت تعرفه ولن ترضى لأبنائك بأن يسبوا به ذات يوم .. لأنهم في النهاية أبناؤك وهى أمهم .. وربما لهذا السبب وحده ادعوك إلى أن تترفع عن منازعتها قضائيا لأن طول فترة التقاضي بغير حكم ناجز يبدو وكأنه دعوة مستترة للمعلقات بغير طلاق للانحراف الخلقي .. ولأنه - عمليا وواقعيا - ليس هناك قانون يستطيع أن يجبر زوجة كارهة على معاشرة زوجها والرضا بحياتها معه حتى ولو نلت حكما بالطاعة .. ولست أظن أنك ترضى لنفسك بكل ذلك أو ترضى لنفسك بما يفكر فيه البعض في مثل هذه الظروف من استصدار حكم بنشوز الزوجة يقضي عليها بالانغماس في الخطأ إلى مالا نهاية .. وأحسن الله بنا أن المحاكم لا تحكم به إلا نادرا حماية للأخلاق والمجتمع قبل كل شيء .

 

 فتحامل على نفسك يا صديقي .. ولا تحرص على من لم تحرص عليك ولا على أطفالها .. فما أجدرنا بأن نزهد في رفقة من زهد فينا .. وسرحها بغير إحسان ، ودعها لاختبار الحياة الصعب يستأدي لك حقك منها وتقبل هذه الهزيمة الشخصية المؤلمة بشجاعة .. فالحياة هزائم وانتصارات وكما نسعد بانتصاراتنا علينا أيضا أن نتقبل هزائمنا وأن نعترف بها وأن نترفع عن الانتقام ممن أدموا حياتنا .. وأبدأ حياة جديدة مع غيرها فأنت في عنفوان رجولتك ! وسوف تسعدك الحياة بمن ترى فيك حلما وأملا وجائزة .. والله حكم بينك وبينها وهو أحكم الحاكمين .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر عام 1989
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات