الوعد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
بدأت قصتي منذ وقت
مبكر فأنا فتاة من أسرة بسيطة كافح عائلها ليوفر لها احتياجاتها وساعدته في مهمته أمي
بحسن تدبيرها وحسن رعايتها لأبنائها وقد شاركتها المسئولية منذ صغرى .. فشاركتها
مسئولية تربية إخوتي وعملت موظفة صغيرة بالإعدادية وواصلت دراستي خلال عملي حتى
استطعت الحصول على شهادة عالية وتحسن مركزي في وظيفتي وتخرج جميع إخوتي في الجامعة
وشقوا طريقهم في الحياة.
وخلال تلك
السنوات اتجهت مشاعري إلى شاب من أبناء الجيران وجدت عنده الحب والحنان وشعرت معه بالأمان
فأعطيته كل ما استطيع لاحتفظ به حبيبا وامني نفسي به زوجا في المستقبل بعد أن ينهي
تعليمه ويتخرج .. وتخرج فتاي فعلا فانتظرت أن يفي بوعده بالارتباط بي لكنه بدأ
يماطل في تنفيذه ويقدم مبررات مختلفة بغير أن استطيع تكذيبه أو الانصراف عنه ..
لأن حياتي ارتبطت به.
وانتظرت وطال
انتظاري وكان كثير العلاقات وكنت أعرف ذلك بل وكنت أراه بعيني رأسي وهو يصاحب
الفتيات ثم يعود إلي وكأنه لم يفعل شيئا .. ولا استطيع مع ذلك أن أغضبه .. وذات
يوم علمت - مصادفة - أن فتاي
قد تمت خطبته لفتاة أخرى فجن جنوني وأقمت الدنيا وأقعدتها وشكوته لطوب الأرض فعاد
بكل هدوء وهدأ من ثورتي وعلل ما حدث بأعذار بددت ثورتي فاستمرت علاقتنا كما كانت وأقوى
، ومر عام على هذا الحال سافر خلاله إلى بلد عربي لكنه لم يوفق فيه ورجع وعاد معه
الأمل في تنفيذ وعده بفسخ خطبته والارتباط بي .. لكنه لم يفعل .
وبعد عودته
بأيام كان علي أن أسافر مع أسرتي للاصطياف في أحد المصايف .. فالتقيت به قبل السفر
.. وكان لقاء يفيض حبا ومشاعر رقيقة وسافرت مع أسرتي وعدت بعد 10 أيام فوجدت علب
الحلوى الفارغة تملأ السلم والمكان .. وتساءلت عن سرها فابلغني الجيران بأنها من بقايا فرح فلان أي
فتاي .. وأنه تزوج في اليوم التالي لسفري ولقائي معه مباشرة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أي وعد هذا الذي تنتظرين الوفاء به بعد عشرين عاما من الانتظار قامت خلالها حروب ووقعت معاهدات سلام .. وشهد العالم متغيرات لم تكن في حسبان أحد .. انك تخدعين نفسك يا آنستي وتعرفين ذلك جيدا لكنك تتعلقين بحبال الوهم وتتصورين أنها يمكن أن ترفعك إلى السماء .
لقد نكث فتاك وعده منذ سنوات طويلة حين خطب غيرك
وكان ذلك كافيا لأن تكفي عن أوهامك وتغيري من نفسك ومن حياتك .. لكنك أثرت الاستسلام
لخيالاتك فضاع العمر في سلسلة من المفاجآت الوهمية .. ففوجئت . به يخطب .. وفوجئت
به يتزوج ، وفوجئت به يسافر .. وفوجئت به ينجب مرة واثنتين .. وفوجئت بأن العمر
سرقك وأنك شارفت على الأربعين .. وسوف تظلين هكذا في حالة تفاجؤ مستمر مادمت
ترفضين الاعتراف بالواقع والتعامل معه على أساس حقائقه وليس على أساس أمانيك
ورغباتك.
فالكارثة أننا نتصور في بعض الأحيان أنه يكفي أن
نريد شيئا لكي نناله ونتجاهل أنه لكي يتحقق ما نريد ينبغي أيضا أن يريد الآخرون وأن
تسمح به الحياة .. وأنت قد عايشت أوهامك فترة طويلة حتى ظننتها واقعا ويسرت على
نفسك الأمر بقبول الأعذار الواهية لا لأنها مقنعة وإنما لأنك تريدين تصديقها ..
وليس هناك أقسى من خداع النفس ..
وأنت تمارسين ذلك منذ عمر طويل حتى أدمنته .. لأنك غير قادرة على مغالبة نفسك
وردها عما لا يليق بها ومن لا يقدر على نفسه لا يقدر على الآخرين ولقد بدأت مأساتك
منذ السطور الأولى في قصتك حين منحته كل ما تستطيعين لتحتفظي به فرخصت في عينيه
منذ البداية .. ولم يجد في نفسه ما يمنعه من الأخذ مادام هناك من يعطي .. لكنه لم
يقتنع بك يوما ولم يرك جديرة بالارتباط به ولم يتزوجك .. لأن الإنسان لا يتزوج إلا
ممن يقتنع بها اقتناعا كاملا حتى وإن كان في احتياج لها .. وآسف لو ذكرتك بكلمة
اياجو الشرير في مسرحية عطيل لشكسبير التي يقول فيها : مصير بعض الفتيات أن يخلصن
آخر المطاف لرجال لا يحترمونهن في أعماقهم ، ويبدو أن هذا هو الحال معك.
فاعترفي بالواقع الذي ترفضين الاعتراف به .. فلقد سقط وعده التاريخي منذ أعلن خطبته وتزوج وأنجب ولا مجال للحديث عنه أو انتظار تحققه بأي شكل من الأشكال فاصدقي نفسك ولا تخدعيها .. واهزمي ضعفك لأنه عدوك الأول وليس أي أحد آخر وحين تنجحين في ذلك .. تستطيعين أن تبدئي حياتك من جديد رغم ما يبدو من صعوبة ذلك لأن الإنسان يستطيع إذا صدقت نيته وصح عزمه أن يبدأ حياته في أي مرحلة من العمر .. وحتى لو كانت فترات ثمينة من العمر قد ضاعت في بحر الأوهام !!
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر عام 1989
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر