شئ من النفوذ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

شئ من النفوذ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 شئ من النفوذ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


أنا یا سیدی فتاة في الخامسة والعشرين من عمري تخرجت في كلية الطلب البيطري بعد أن أمضيت داخل جدرانها 5 سنوات ..يعلم الله كم عانيت خلالها من عناء وشقاء كل يوم من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء بين المحاضرات والفصول المتخصصة والمشرحة . وبعد تخرجي فيها تقدمت لدبلوم الدراسات العليا في التحاليل الطبية البشرية وحصلت عليه بتقدير جيد جدا ، لأنني كنت أحلم بأن أكون طبيبة تحاليل منذ كنت أجلس تحت أقدام أبي المريض ونحن نطوف به على أطباء التحاليل لنتأكد من نوعية المرض إلى أن توفاه الله وأنا طالبة بالسنة الثالثة في كليتي .. ولأني فتاة من أسرة عادية .. و لا سند لي فقد قررت الاعتماد على نفسي وأن ابحث عن مكان أتدرب فيه على أعمال التحاليل إلى أن وجدته فتدربت به بلا أجر لمدة سنة ونصف السنة حتى وثقت في قدراتي فتجرأت وبحثت عن عمل براتب ووجدته فعلا في إحدى عيادات تحاليل الأورام في مدينتي بالأقاليم، وبدأت عملي فيه بحماس .. وبقلب يخفق بالأمل في التخفيف عن آلام البشر .. فكنت أمضي يومي كله في المعمل وأطير فرحا عندما تأتي نتيجة التحليل الذي أجريته مطمئنة .. وأزف البشرى سعيدة للمريض كأنه أبي .. واكتئب إذا كانت النتيجة موجبة وأتذكر عذاب أبي مع مرضه وتدمع عیناي وأحاول التخفيف عن أهل المريض بقدر استطاعتي .

 

 وظللت هكذا لمدة أسبوع حافل إلى أن فاجأني الأستاذ الجامعي صاحب العيادة بطلب غريب هو أن أقوم كل يوم بكنس العيادة وتنظيفها وشراء زجاجات المياه الغازية وتقديمها لضيوفه من الأطباء .. فذهلت واختنقت بالبكاء لأنه نسي أنني طبيبة مثله وإن كنت بلا سند في الحياة .. وتمالكت نفسي فاعتذرت له بأن ذلك ليس من عملي فكان جوابه أن مد يده إلي طالبا مفتاح العيادة بما يعني أنه قد فصلني فأعطيته المفتاح .. ومد يده إلي مرة أخرى بأجري عن الأسبوع الذي عملته فتناولته صامتة وغادرت العيادة وأنا لا أرى الطريق من يأسي واكتئابي وعدت لبيتي .. فأبلغت أمي باكية أنني قد تركت العمل لأسباب خارجة عن إرادتي وفقدت ثقتي في نفسي وفي الناس وأنا أجد زميلاتي يعملن في شركات الأدوية وفى المستشفيات لمجرد أن هذه بنت فلان وهذه بنت فلان أما أنا وأمثالي من أبناء الأسر التي لا نفوذ لها فليس لنا سوى العناء والإهانة. 

إنني لم أرو لأمي ما حدث حتى الآن وقد كانت تعلق آمالا كبارا على عملي فهل من بين قرائك من يكفيني حرج نظراتها لي وهي تسألني كل يوم لماذا تركت العمل الذي سعدت به حين وجدته ؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 لو أن هذا الطبيب قد أبلغك أنه سوف يعتبر نظافة المكان مسئولية مشتركة بينكما .. فيشاركك في بعض أعمالها ويطلب منك المساعدة فيها لعجزه عن توفير من يقوم بها لما وجدت في طلبه هذا أية غضاضة ولشجعتك على مشاركته بروح رياضية مادام هو يضرب بنفسه المثل فيه ، أما أن يكون ذلك استعلاء منه أو بخلا بأجر من يقوم بمثل هذا العمل أو "ابتكارا" جديدا من ابتكارات بعض أصحاب الأعمال حين يتفننون في تطفيش من يرغبون في التخلص منه .. فهذا شيء آخر لكن الأمر على أية حال لا يستحق أن تتوقفي أمامه طويلا ولا أن تحوليه إلى مأساة .. فهو في النهاية ليس أكثر من عمل لم توفقي فيه .. وسوف توفقين في غيره بغير ضرورة لأن تكوني من عائلة ذات نفوذ .. لأن النفوذ قد يسهل البداية فعلا لكنه لا يضمن الاستمرار والامتياز في العمل اللذين لا تحققهما أبدا سوى الكفاءة والجدارة، فاستردي ثقتك بنفسك وانتظري فرصة أخرى قد تجيء إليك عن طريق بريد الأهرام .. والله الموفق.



 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات