خيوط الحرير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

خيوط الحرير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

خيوط الحرير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

بدأت قصتي وأنا طالبة في إحدى الكليات حين تعرفت إلى زمیل لي كانت له ظروف خاصة .. فقد تعرض لحادث أدى إلى فقده لبصره مع استمراره في العلاج أملا في استعادته .. لكنه مع فقده لبصره فقد خطيبته التي عجزت عن الصمود لضغط أسرتها عليها لتتخلى عنه وقد تعرفت عليه وعلى أخته في هذه الظروف المؤلمة نشأت بيننا نحن الثلاثة صداقة حميمة فأصبحت شقيقته تاتي به إلى الكلية كل صباح، ثم أقوم أنا بتوصيله إلى بيته بعد الظهر.. وكثيرا ما دعتني شقيقته إلى زيارتها فكنت أذهب إليها ونقضي نحن الثلاثة وقتا جميلا، وهكذا مضت سنوات الدراسة الأربع وتخرج هو وتخرجت معه وبعد تخرجنا بأيام جاءتني شقيقته في بيتي لتقول أن شقيقها يخشى مصارحتي بمشاعره وبأنه يرغب في التقدم لخطبتي خوفا من أن يصدم صدمة دامية أخرى بعد صدمته الأولى . فسعدت جدا بما قالته لي لأني كنت انتظر هذه اللحظة منذ سنوات ووجدتني أغادر البيت معها إلى بيتهما لأبلغه بردي .. ودخلت عليه صالون الشقة فوجدته وحيدا منتظر بلهفة عودة شقيقته ويتمزق قلقا من غيابها فلما أن سمع صوتي بتحية المساء حتى انفجر البشر في وجهه وعرف أن ردي بالقبول وقال لي متهللا أنه سيزور أبي في اليوم التالي.

 

وجاء الموعد وجاء هو ليزور أبي ويطلب يدي منه ، فرفض أبي طلبه بطريقة جارحة لكنه لم ييأس وحاول مرارا إقناعه بأنه قادر على إسعادي وبأن ما جرى له يمكن أن يقع لأي إنسان .. وأنه ليس ذنبه أنه كان ضحية حادث لا يد له فيه .. إلخ

لكن أبي لم يتزحزح عن موقفه وخرج فتاي حزينا كسيرا .. والتقيت بعدها بأخته فروت لي انه عاد للبيت وانفجر في البكاء لوقت طويل قبل أن يتمالك نفسه .. فعافت نفسي كل شيء وكرهت الدنيا، وعدت لأبي لأحاول مناقشته في رفضه فلم يسمع لي وطردني من غرفته فانزويت في غرفتي لا أغادرها ولا أكلم أحدا .. وعرضت على أسرتي خطيبا فرفضته قبل أن أسمع اسمه ومضت أيامي حزينة وثقيلة إلى أن رق قلب أبي بعد 4 شهور من العذاب فجاءتني أمي لغرفتي تزف إلي بشرى موافقته مضطرا على رغبتي فأسرعت أبلغ فتاي الذي جاء على عجل في اليوم التالي ليخبطني وتم الزواج بعد شهور وتزوجت شقيقته التي تكبره بعدة سنوات أيضا وانتقلت إلى عش الزوجية الذي حلمت به سنوات طويلة مع حبيب صباي وأحلامي.

 

 ومضت أيامنا جميلة ولم يقلل من سعادتنا فيها أنه لم يجد عملا بسبب ظروفه الخاصة .. فلقد عملت أنا وأصبحت أودعه في الصباح وأعود إليه في الظهر وأحس بفرحته حين يسمع صرير المفتاح في الباب .. ثم نمضي باقي اليوم معا في سعادة تامة .. إذا خرجنا فنحن معا وإذا أمضينا المساء في البيت فنحن معا دائماً وفي كل لحظة ورغم أن له دخلا خاصا يسهم به في ميزانية البيت إلا إنه كان يتألم كثيرا لبطالته ولأنه لا يعمل فسعى لتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة وأصبحت أحضر له بعض أوراق العمل لأقرأها عليه فيكتبها على الآلة الكاتبة بمهارة وبلا أخطاء وكنا خلال ذلك نواصل التردد على الطبيب في مواعيد منتظمة فيمنينا بالأمل شهرا بعد شهر حتى جاء يوم أبلغنا فيه أن هناك أملا كبيرا في شفائه بعد جراحة معينة في عينيه، وطرنا فرحا بهذا النبأ .

 

وحددنا موعد الجراحة وصاحبته في كل المراحل السابقة لها وفي اللحظات الأخيرة قبل نقله إلى غرفة العمليات قلت له من قلبي أنني سأظل أحبه إلى الأبد سواء نجحت الجراحة أم فشلت فدمعت عيناه فرحا وخوفا .. ثم ادخلوه غرفة العمليات وظل قلبي ينتفض بقوة وأنا ابتهل إلى أن يتم نعمته عليه حتى غادرها إلى حجرته معصوب العينين، ومرت الأيام التالية للجراحة بطيئة ثم جاءت اللحظة الحاسمة ورفع الطبيب العصابة عن عينيه ومضت اللحظات صامتة قاسية حتى نطق زوجي فجأة بأنه يری "نورا" ، لكنه لا يرى شيئا فانفرجت أسارير الطبيب وهنأه بالشفاء وهنأنا وقال لنا أنه سيسترد بصره خلال ساعات ثم ودعنا وانصرف أما أنا فقد كانت حالتي يرثى لها من الفرحة والبكاء والخوف في نفس الوقت .. وكلما مضت دقائق قال زوجي أرى أشياء تتحرك لكني لا أدركها بالتحديد وهكذا لمدة ساعات طويلة استطاع بعدها أن يرى الأشياء بوضوح وأن يرى وجه زوجته التي أحبته وأحبها منذ ٧ سنوات لأول مرة ولا تسألني عن فرحتي أو فرحة شقيقته ولا عن فرحته هو .. فبعد النقاهة عاد إلى بيته رجلا وسيما مكتمل الصحة يتحرك وحده ولا يحتاج إلى مساعدة وكان أول ما فعله هو أن أراد العمل فبدأ يبحث عنه.



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 لا شك في حبه لك وحاجته إليك ولا شك في حبك له وحاجتك إليه فكلاكما محفور في أعماق صاحبه ولن تطيب لأحدكما حياة بعيدا عن الآخر وكل ما يجري بينكما الآن هو من "شئون الحب" المألوفة بين المحبين .. ومع ذلك فإني استطيع أن أفسر لك بعض أسباب مشكلتك لعلها تفيدك في اختيار الطريق السليم.

 

لقد شهدت حياتكما متغيرات هامة لكنك لم تتكيفي معها بالقدر المطلوب .. فقد كان زوجك قبل شفائه يعتمد عليك اعتمادا كليا في كل أمور حياته وصادف ذلك هوى في نفسك المحبة واعتدت عليه وعلى تلازمكما معا في كل الأوقات ثم من عليه بالشفاء وبدأ اعتماده على نفسه واستقلاله بحركته فلم تحسني فهم أسباب ذلك وتصورت أنه رغبة في الابتعاد عنك .. فبدأت مقاومتك لهذه النزعة الاستقلالية وأدى ذلك فيما أتصور إلى عناده وتماديه فيما يفعل .. فلو كنت قد أدركت على الفور الفارق بين صحبة من كان يحتاج إليك في كل حركاته وسكناته ، وبين صحبة من يقدر الآن على الحركة والتصرف وحده لكففت عن منازعته في ذلك ولسلمت له بحقه في أن تكون له حياة خارج إطار علاقته الحميمة بك ككل الرجال ولما استنفر هو لإثبات حقه في ذلك بالتمادي في السهر مع أصدقائه .. فالحق أن لكل إنسان مهما بلغ من ارتباطه بشريك عمره أوقاتا يحب أن يخلو فيها إلى نفسه والى أصدقائه وهناك خيط رفيع بين الصحبة وبين التلازم فالصحبة تشعر الإنسان بالأمان أما التلازم فيشعره بالضجر ولو بعد حين.

 

والزوجة المحبة هي من تطيل لزوجها خيوط الحرير التي تربطه بها فلا تنقطع ولا تتمزق فيتحرك ويروح ويجيء ثم يعود إليها على جناح الشوق .. أما من تجذبها بعنف إليها فإنها تعرضها للخطر في أية لحظة .. فاستعيني بحكمتك يا سيدتي على أن تبقى خيوطك معه مرنة فيخرج ويتحرك ثم يعود إليك فلا يجد اللوم في انتظاره لأن اللوم في غير كنهه ضجر، كما يقول الشاعر ، ولأنه مهما بعد عنك فهو مقيد إليك بخيوط متينة وسوف يتشبع إن آجلا أو عاجلا بحياته الخارجية التي عاد إليها بعد حرمان طويل وتجربه أليمة خاصة إذا أعفيته من اللوم والعتاب فتهدأ أعصابه ولا يتمزق بين حبه ورغبته في أن يستشعر الاستقلال عنك .. فهذا هو السر الحقيقي في تردده بين الرفق بك والثورة عليك في بعض الأحيان وليس فيما تتصورينه هو ازدواج شخصيته فلا تفسدي عليك سعادتك ولا تخشي شيئا .. فلن ينفصل رباطكما أبدا بإذن الله وتقبلي أوضاعك الجديدة بنفس راضية واشكري نعمة الله التي انعم بها عليكما ولم تكن في الحسبان وقولي دائما "رب زدني فضلا إني لك من الشاكرين" فتهدأ نفسك وتستعيدي سلامك واطمئنانك إن شاء الله. 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات