البيت العاري .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

البيت العاري .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

البيت العاري .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

بعد تخرجي في كليتي تعرفت على شريك حياتي في مكان عمله .. وكنت في بداية حياتي العملية وكان هو كذلك فلمست فيه حسن الخلق والرجولة وعفة اليد ... ولم يكن يملك غير هذه المؤهلات وكانت كافية جدا بالنسبة لي فتمت خطبتي له وبعد الخطبة لاحت لي فرصة للعمل في الخارج بمؤهلي كأخصائية اجتماعية فسافرت واستدعيته وتزوجنا .. وبدأنا حياتنا في الغربة وبدأنا في ادخار كل ما نستطيع من دخلنا لنحقق أحلامنا في الحصول على شقة في مدينتي وتأثيثها بضروريات الحياة فإذا بالدولة التي تعمل بها تستغنى عن العاملين فيها قبل أن تثمر رحلتنا ثمارها وإذا بتخصصي وتخصص زوجی كمهندس زراعي في مقدمة التخصصات التي تم الاستغناء عنها .. فعدنا إلى مدينتنا بقدر قليل من المدخرات وطفلة رضيعة .. ولم نجد ملاذا لنا سوى شقة أهلي المكونة من 3 حجرات يقيم شقيقاي في إحدى غرفها وتقيم أمي وأختي في غرفة أخرى فلم نجد مكانا لنا إلا في حجرة الصالون فاتخذنا لنا ركنا فيها .. نفرد فيه حشية في المساء ونطويها في الصباح الباكر وتخرج إلى عملنا ونواصل الكفاح للبحث عن شقة ولو من غرفة واحدة بمدخراتنا القليلة .. فما أن يعرف كل من نسأله قدر المبلغ الذي معنا حتى يبتسم ولا يجيب .. ولم يقصر زوجي في البحث ولا في الكفاح لكي يحقق لنا حلم الشقة فعض طوال النهار كعامل بناء وكعامل عادى يحمل فوق ظهره الطوب لكي يوفر لنا المال اللازم وتواصلت الحياة في كفاح وعناء حتى تزوج أحد شقيقي وغادر الشقة .. فاستقل شقيقي الآخر بغرفته وتزوج بها .

 

ثم لاح لنا في الأفق عريس لأختي التي تكبرني ولها ظروفها الخاصة فكان لابد لنا من مغادرة الشقة لكي أعطي لشقيقتي الفرصة ليكون لها بيت وزوج وأبناء مثلي .. فانتقلت أمي إلى الصالون وتزوجت شقيقتي في حجرتها وباركت زواجها وسعدت به .. أما نحن فقد أنقذتنا السماء بصديقة تعمل في الخارج وتستعد للسفر وكانت تملك قطعة أرض في منطقة جديدة نائية من ضواحي المدينة بنت عليها بيتا صغيرا لم يستكمل فعرضت علينا الإقامة فيه إلى حين عودتها وسعدنا بذلك جدا وشكرناها كثيرا .. وكان البيت الصغير مجرد بناء من الطوب بلا سقف ولا أبواب ولا نوافذ فانطلق زوجي فاشترى بعض الأعمدة الخشبية وبعض الغاب وصنع منها سقفا مؤقتا واشترى بابا خشبيا قام بتركيبه في مدخل البيت وانتقلنا إلى هذا المأوى فرحين وبعد قليل اشترى نافذة خشبية وقام بتركيبها وعشنا أياما في هذا البيت بلا كهرباء ولا مياه سعداء إلى أن فزعت ذات ليلة على يد تفتح باب الغرفة التي ننام بها فظننته زوجي لكني أبصرت زوجي نائما إلى جواري فهلعت وأحس زوجي بهذه الحركة المريبة فنهض يطارد المقتحم الذي أسرع بالفرار فصرخت فيه بكل قوتي أن يدعه يفر وألا يصر على الإمساك به رحمة بي وبطفلتي وطفلي وخوفا من أن يصيبه مكروه .. فعاد حانقا ومن هذه الليلة استقر الخوف في أعماقي وأصبح الليل بالنسبة لي رعبا وعذابا.

 

وفي هذه الظروف جاء من يبشرنا بإمكانية أن نجد عملا في الخارج عن طريق أحد الأشخاص إذا دفعنا له مبلغا معينا من المال .. وفي غمرة الإحساس باليأس قبلنا ودفعنا له كل ما تبقى معنا من مدخرات لتوفير الشقة .. فما لبث أن اختفى هذا الشخص ومعه نقودنا ونقود أمثالنا من الغلابة - لا سامحه الله - فعدنا مرة أخرى إلى القنوط والاكتئاب ومعايشة الخوف والرعب كل ليلة .

إنني وزوجي في عنفوان شبابنا ولدينا من الطموح الكثير ومن النفس الصافية الراضية ما يهون علينا متاعبنا ومن الطاقة ما يسمح لنا بالعمل والكفاح .. وقد حلمنا بأن نحصل من وزارة الزراعة على أرض زراعية نستصلحها ونقيم في البيت الملحق بها .. فوقفت شروط منح هذه الأرض من حيث السن وسنة التخرج حائلا دون تحقيق هذا الأمل .. ولقد اقبل الشتاء يا سيدي وبدأت الأمطار مبكرة هذا العام في الإسكندرية .. وأصبح سقف ذلك البيت لا يقي من برد ولا مطر .. ومع ذلك فنحن راضون وسعداء بحياتنا وحبنا وتفاهمنا وأنا وزوجي نحتمي ببعضنا البعض ولا نختلف حول شيء ونقضى أسعد الأوقات داخل هذا البيت العاري من كل شيء ولولا خوف الليل ما نقص حياتي شيء .. ونبتسم ونقول لأنفسنا دائما أن الدنيا سوف تبتسم في وجوهنا ذات يوم وأن علينا أن نصبر مادامت لنا القدرة على الكفاح والعمل والأمل .. وأنا أؤمن بكل ذلك فعلا واعمل به لكني اسأل ألا يوجد في الإسكندرية كلها مالك يوافق على أن نبني فوق سطح بيته كشكا خشبيا أو غرفة وصالة نتحمل نحن بناءها بإمكاناتنا المحدودة وبخبرة زوجي في هذا المجال وبعد أن نبنيها بدون أي مساعدة منه تصبح ملكه ويؤجرها لنا بإيجار يناسب قدرتنا.


ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لابد أنه يوجد في مكان ما من الأرض من يرغب في إسعاد أسرة مكافحة كاسرتك ومن يملك القدرة على تحقيق هذا الحلم الصغير لها، خاصة إذا كان لن يكلفه شيئا وربما أضاف إليه القليل .. فإذا كان الأمر كذلك فإني سوف احلم معك بان يتصل بي من يرغب في تخفيف عناء الحياة عنكم لأرشدكم للاتصال به .. فليست هناك أسرة أحق بالعون من أسرة راضية بظروفها وسعيدة بحياتها رغم صعوباتها وتتطلع فقط إلى نيل حقها المشروع في حق المأوى الآمن كأسرتك .. فعسى أن تتحقق الأحلام الصغيرة .. وأن يتسع العمر لتحقيق الآمال الكبار إن شاء الله وإنا لمنتظرون.



 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات