بلا أحزان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

بلا أحزان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 بلا أحزان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 

ترددت طويلا قبل أن أكتب إليك فأنا شاب في الثلاثين .. نشأت في أسرة متوسطة ولاحظت منذ طفولتي المبكرة أنني لست طفلا كباقي الأطفال رغم وسامتي اللافتة للنظر .. فأنا سجين دائما في شقتنا محاط دائما بالقيود والسدود إذا أسرفت في اللعب ذات يوم غبت عن الوعي فترة من الزمن أعود بعدها إلى التنبه فأجد أمي وأبي حولي وقد اصفر وجهاهما وتولاهما الفزع ثم اسمع عتابهما لي .. هكذا قدر لي أن أعيش طفولتي تحت رقابة مستمرة من أمي لكيلا أتسلل إلى الخارج أو العب الكرة مع الصغار الذين اشتقت دائما للانضمام إليهم.

 وفى سن الخامسة بدأت اسأل أمي لماذا تعطيني هذه الحقنة كل يوم فتظفر الدموع من عينيها على غير إرادتها ثم تحاول انتزاع ابتسامة قبل أن تقول لي أنها ضرورية في كل يوم لكي يكبر جسمي وأنمو مثل باقي الأطفال ، أو تتجاهل سؤالي وهي تزم شفتيها حتى تتحكم في انفعالاتها ، ويوما بعد يوم وربما قبل أن ابلغ السابعة من عمري عرفت سر حرماني من لعب الكرة وأكل الحلوى التي يغرم بها الصغار وسر زياراتي المتكررة للطبيب ورغم تجاربي المريرة فلقد كنت اضعف أمام إغراء الحلوى أحيانا فآكل منها ما تشتهيه نفسي خلسة .. فتكون النتيجة غيبوبة لفترة تطول أو تقصر ثم أصحو على وجه أمي الباكي الحزين ..

أما في المدرسة فلقد تكرر حرماني من كل ما يتلهى به التلاميذ في فترات الراحة بين الدروس وخصني المدرسون بمعاملة خاصة زادت من تعاستي فكانوا يتجنبون معاقبتي إذا أخطأت ويفزعون إذا جرحت لأي سبب .. فمضت سنوات الدراسة ثقيلة مملة إلى أن كبرت وعرفت ما يضرني وما ينفعني فتجنبت الكثير مما كنت أتعرض له من متاعب صحية .. وواصلت تعلیمي حتى تخرجت في الجامعة بلا تعثر ووفقني الله في العمل في إحدى الشركات.

 

 وبدأت حياتي العملية سعيدا وفي حفل زفاف أحد أقاربي رأيت مع أختي صديقة قديمة لها كانت من زميلاتها في المدرسة الإعدادية ثم تقطعت الأسباب بينهما فتعرفت عليها وعلى شقيقها واستعدنا ذكرياتنا القديمة واتفقنا على تجديد الصلة بيننا ، وكانت صديقة أختي طالبة في السنة الثالثة بإحدى الكليات النظرية وشقيقها طالبا في السنة النهائية بإحدى الكليات العملية .. وبعد أسابيع من هذا اللقاء احتفلت أختي بعيد ميلادها ودعت بعض الصديقات فألمحت إليها أن تدعو تلك الصديقة فدعتها ، ثم جاء شقيقها في نهاية الحفل ليصطحبها إلى البيت .. فتمسكت بدعوته لمجالستي في غرفتي .. وتواعدنا على تكرار الزيارة .. وبعد عدة مناسبات مماثلة اعترفت لصديقة شقيقتي بحبي ورغبتي في الارتباط بها فصارحتني بأنها أحبتني منذ اللقاء الأول في حفل الزفاف ، وأنها انتظرت بفارغ صبر دعوة شقيقتي لها فسعدت بذلك كل السعادة .. وتعددت لقاءاتنا وبعد انتهائها من أداء الامتحان اتفقنا على أن أتقدم لخطبتها .. وفاتحت أبي فرحب بالفكرة وشجعني عليها لمعرفته بالأسرة والأب وطلبت منه أن يفاتح أباها فوعدني بزيارته وجاء اليوم الموعود فخرج أبي إلى زيارة والد فتاتي وانتظرت عودته على أحر من الجمر، وهرعت لاستقباله مستطلعا رأيه عند عودته فوجدته متجهما وقال لي بحذر أن أباها أبدى إعجابه بي وترحيبه .. لكنه يرى أن ابنته أصغر من سن الزواج ولا يريد لها الارتباط الآن فهممت بأن احتج على هذا السبب .. لكن شيئا ما في وجه أبي المتهجم منعني من الكلام فسكت .. ثم انسحبت إلى غرفتي غارقا في أفكاري فجاءت أمي وأختي تحاولان التسرية عني بافتعال المرح والحكايات وفهمت الحقيقة وابتلعت آلامي .. وقررت أن أدافع عن سعادتي الخاصة بنفسي .. وفي اليوم التالي اتصلت بوالد فتاتي واستأذنته في زيارته فوافق محرجا .. وذهبت إليه وصارحته بأني أعرف السبب الحقيقي لرفضه لي لكنه سبب لا ذنب لي فيه .. وقد يتعرض له أي إنسان فلماذا يحرمني من سعادتي وأنا وفتاتي نريد أن نواجه الحياة معا بخيرها وشرها فقال لي محرجا أنه لا يطلب لابنته إلا السعادة ولا يستطيع أن يقف في وجه رغبتها إذا أرادت ذلك لكن له النصيحة ولها أن تقبلها أو ترفضها .. وفهمت من ذلك أنه لن يعارض زواجنا إذا تمسكت فتاتي ودافعت عنه بحرارة تقنعه بعدم الاعتراض وشكرته وانصرفت وأسرعت في اليوم التالي اتصل بفتاتي لنلتقي ونرتب خطواتنا لإقناع أبيها ، فحاولت الاعتذار بانشغالها بأمور هامة .. فصرخت فيها طالبا أن تترك كل شيء وتجيء .. فجاءت متكاسلة وفوجئت بها تروي لي حديثا مؤلما جرى بينها وبين أبيها عن المستقبل والاحتمالات .. إلخ .. قالت لي هذا الحديث القاسي ثم تطالبني في النهاية بأن نكون أشقاء وأن نحتفظ بالعلاقة الإنسانية بيننا في إطار الإخوة والصداقة العائلية وتلقيت الرسالة صامتا .. وأدركت على الفور أني خسرت المعركة ومن الطلقة الأولى .. لقد خافت فتاتي من مرضي مع أني لم اختره لنفسي وهكذا لم تعد هناك قضية أدافع عنها وأقاتل من أجلها .. وشكرتها وعرضت توصيلها بسيارة أجرة كما اعتدنا في كل مرة .. فاعتذرت بأنها ستزور صديقة في مكان قريب .. فودعتها وانصرفت وحاولت التماسك أمام أبي وأمي وشقيقتي حتى لا أزيد من آلامهم .. وتجرعت الألم وحدي قطرة قطرة .. وفي وحدتي صببت لومي على فتاتي التي تخلت عني دون مقاومة رغم معرفتها من البداية بظروفي الخاصة من شقيقتي ، ثم أعفيتها بعد قليل من اللوم وصببت حنقي على ظروفي التي قضت علي بهذا الوضع .. فتوقفت سرا عن تناول الحقنة وأسرفت في الطعام والشراب بلا وعي يأسا من كل شيء فعاودتني الغيبوبة لأول مرة منذ ١٢ سنة ، وزارني الطبيب في البيت وتكشفت الحقيقة فعاتبتني أمي عتابا أليما على ما فعلت بنفسي .. وذكرتني بما تحملته هي في طفولتي من أجلي .. وكان الله قد أراد أن يطهرني من آلامي بهذه المحنة الصحية.

 

فنهضت من فراش المرض مقبلا على الحياة ناسيا ما كان، وذات يوم زارني شقيق فتاتي السابقة ليطمئن على صحتي وكانت المرة الأولى التي أراه فيها بعد ما حدث ودخل إلي مستشعرا الحرج، لكني رحبت به بحرارة أزالت عنه الحرج وشكرته على زيارته ووعدته بأن أردها له ومضت على هذه الأزمة الصحية عدة شهور اقتنعت خلالها بأن مثلي ليس من حقه أن يدخل تجارب واعدة بالفشل لكيلا يعاني مما عانيت منه .. فتحفظت دائما في علاقتي بزميلاتي في العمل وفتيات الأسرة ، ولاحظت أن إحدى زميلاتي تخصني بعنايتها فلم أشجعها على ذلك ولم أتقدم خطوة واحدة في اتجاهها رغم أنها فتاة جميلة ومن أسرة طيبة وواصلت حياتي متمتعا بلطف أبوي وحب شقيقتي الوحيدة التي اعتبرتها منذ الطفولة أفضل أصدقائي .. وكان أبي منذ صبانا يشركنا جميعا في كل الشئون العائلية ويحرص على ألا يكون بيننا سر على أحد أفراد الأسرة فلاحظت بعد فترة بأن أبى وأمي يتهامسان كثيرا .. وأمي وأختي تتهامسان في أحيان كثيرة .. ثم رأيت شقيقتي مشغولة البال بأمر ما .. فاستفسرت من أمي عما يشغل الجميع ولا أعرفه وحدي فترددت قليلا ثم أخبرتني بأن شقيق فتاتي السابقة قد خطب شقيقتي وأنها رفضته بلا تردد رغم عدم اعتراضها على شخصه ، وأنها وأبي أيداها في ذلك بكل قوة.

 

 و فهمت سر المشاورات الهامسة .. وأدركت على الفور أن الجميع قد رفضوه مراعاة لمشاعري أو إشفاقا علي وربما ثأرا لي ، وأنا أعرف جيدا شقيقتي وصدق حبها لي لكن لي قلبا أحسست عن طريقه منذ فترة طويلة بأن هناك تجاذبا متبادلا بين الطرفين .. فغادرت أمي وبحثت عن شقيقتي ثم أمسكتها من يدها بانفعال وسحبتها إلى غرفتي .. ثم قلت لها بحزم والدم يغلي في عروقي سأسألك عدة أسئلة أريد جوابا صريحا عليها بلا مداراة .. هل تعترضين عليه لأي سبب يتعلق بشخصه هو ؟ فأجابت بالنفي .. فسألتها : هل تجدين في نفسك ميلا له لو لم يحدث بيننا ما حدث ؟ .. فأجابت بالإيجاب .. هل ترين فيه أي عيب شخصي محدد ؟ فنفت ذلك، فاكتفيت بذلك وأطلقت يدها ثم غادرت الشقة وانصرفت ، وبعد 3 ساعات عدت من الخارج .. فلم افتح باب الشقة بمفتاحي الذي احمله معي دائما وإنما دققت جرس الباب بعنف لكي يتنبه كل من داخلها .. وجاءت أمي فزعة ففتحت الباب بحذر .. ففتحته أنا عن آخره طالبا منها أن تفسح لي الطريق ثم صحت بصوت عالي : تفضل .. يا حسام ، ودخلت ودخل معي حسام شقيق فتاتي السابقة وسط ذهول أبي وأمي وأختي الذين وقفوا في الصالة جامدين .. حتى صحت بهم ألا ترحبون بضيف جاء إلى بيتكم ؟ ودعوت الجميع للجلوس وخاطبت أبي قائلا له : إني شفيع صديقي حسام إليك في قبول خطبته لأختي الحبيبة التي لا أطيق أن يمسها سوء ولن أجد في الدنيا من ائتمنه عليها غيره، وأشعت جوا من المرح لأغطي به حرج أختي وأبي بالذات واشتركنا في حديث عائلي لمدة ساعة ، انصرف بعدها حسام وودعته حتى باب العمارة ، ثم عدت فوجدت أمي وأختي تمسحان دموعهما .. وأبي يدخن في الصالون وحيدا وجاءني صوته يناديني فذهبت إليه فقال لي أني تسرعت وأنه رغم أنه لا يعترض على الشاب لخلقه وظروفه إلا أنه يشفق علي من قيام هذه العلاقة العائلية الجديدة بيننا وبين أسرته مما قد يعرضني لمتاعب لا داعي لها نتيجة للاتصال الذي سينشأ بين الأسرتين .. فطمأنته إلى أني قد شفيت من كل آثار قصتي القديمة وحتى لو لم أتخلص من هذه الآثار لما كان من العدل أن أحرم شقيقتي من سعادتها لأسباب تتعلق بي أنا ، ولا دخل لأختي ولا لأحد بها سوى إرادة الله التي أرادت لي ظروف الخاصة ولأول مرة منذ وعيت للحياة ألمح الدموع في عيني أبي وهو يجاهد لحبسها ثم يهرول بعيدا عني .

 

وبعد أيام من هذه الليلة الحافلة .. استقبلنا أسرة خطيب أختي في زيارة واشترطت على حسام قبلها أن يصطحب معه كل أفراد أسرته حتى نذيب الجليد وأبدد مخاوف أمي وأبي.

 وجاءت الأسرة بكل أفرادها ووقفت أرحب بها بحرارة وتعمدت أن انظر لفتاتي السابقة بثبات وأنا أرحب بها مبتسما فكانت هي التي خفضت عينيها واستشعرت الحرج .. لكني لم ادع أحدا في حرجه وأشعلت الجلسة مرحا وبهجة وضحكا حتى جاءت اللحظة المناسبة وقرأنا الفاتحة وقبلت شقيقتي مهننا وانتهت والحمد لله الجلسة ونحن جميعا في قمة السعادة .. وبعد شهر تم شراء الشبكة وإعلان الخطبة في حفل صغير وأصبح حسام فردا من أسرتنا الصغيرة وتعددت المناسبات العائلية التي تلتقي فيها الأسرتان .. وبعد ٣ شهور من خطبة أختي ، خُطبت فتاتي السابقة إلى قريب لها يعمل في الخارج وسيعقد قرانها وتلحق به خلال هذا الصيف وحرصت على حضور الخطبة مع أسرتي بلا أي ضغينة .. وعدت لمواصلة حياتي المنظمة بين العمل وأسرتي ونظامي الغذائي الذي احرص عليه بدقة وبلا تهاون أملا في الحياة .



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إن الإنسان إذا غالى في خوفه من حوادث الطريق فلن يغادر بيته ولن يسعى في الأرض .. ومن يغال في الخوف من الفشل يشل الخوف حركته ويسلمه إلى العجز والفشل ، فلابد إذن من الاعتدال حتى في الاحتراس والتدبر .. ولابد دائما من النظر المتزن إلى الأمور مهما كانت مرارة تجاربنا السابقة معها لأن الحياة يا صديقي سلسلة متصلة من تجارب الفشل والنجاح، وخبرة السنين هي في النهاية حصاد هذه السلسلة المتصلة وليست حصاد التجارب السعيدة وحدها ولعلنا نتعلم من هزائم الحياة بأكثر وأعمق مما نتعلم من انتصاراتها .. وأنت في النهاية لم تواجه سوى تجربة إحباط واحدة ، وان كانت أليمة ، وقد استوفيت نصيبك من مراراتها كاملا حتى كدت تعرض نفسك للخطر بسببها، لكن معدنك الأصيل صمد للمحنة واكتسب خبرتها وصهرك الألم وطهرك من الشوائب فصفت روحك كما يصفو الذهب بالسبك بالنار، وخرجت من التجربة بغير مرارة ولا ضغينة تجاه الآخرين فهيأك كل ذلك لأن تتعالى على الصغائر وأن ترى بحسك العائلي السليم أن سعادة شقيقتك أحق بالاعتبار من أي حسابات شخصية أو ذكريات أليمة فكان تصرفك إزاء شقيقتك غاية في الفروسية والنبل والإحساس بالمسئولية العائلية .. هكذا صفت روحك من كل شوائب التجربة القديمة .. ولم تبق إلا أن تتخلص أيضا من هذه المغالاة في الخوف من الفشل .. وهو توجس لا أرى له مبررا مقنعا لأن حبك الأول لم ينهزم في حقيقة الأمر بسبب ظروفك الصحية الهينة، وإنما انهار لأن دعائمه لم تكن غائرة بالعمق الكافي داخل فتاتك .. ولو كان الأمر كذلك لما تخلت عنك بمثل هذه البساطة وهي من تعرف ظروفك الخاصة منذ البداية ومن ترك لها أبوها حرية الاختيار بعد أن بصرها بما يراه كأب في صالحها فاختارت ما تصورته أمانا ضد الزمان ولا أحد في الحقيقة یدري سوی الله جل شأنه أين هو الأمان الحقيقي ضد الزمان ولا ماذا يخبئ الغد لأي إنسان مهما كان صحيح البدن .

 

 فخض غمار التجربة يا صديقي مؤمنا بالله وبنفسك وبصدق نواياك الطيبة بشرط أن تصارح فتاتك في المراحل الأولى بكل الحقيقة عنك لأن الاختيار الذي يتحقق على أساس المصارحة والثقة يصمد للشدائد ويتحدى المحن ولا تخش شيئا .. فإن سجاياك ترشحك لكل شيء جميل في الحياة .. فلماذا تتوقع أن تخذلك الدنيا مرة أخرى ؟

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات