البركان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

البركان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

البركان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

أنا يا سيدي فتاة في الرابعة والعشرين من عمري .. تربيت منذ صغرى مع جار لنا .. فكنا نلعب معا ونحن أطفال وربطت بيننا الجيرة والمشاركة بروابط متينة وبعد أن خرجنا من طور الطفولة إلى مرحلة الصبا أصبح بيننا نوع من الود العميق البريء من أي شوائب، وعندما بلغت سن السادسة عشرة وكان هو في الثامنة عشرة من عمره انتقلت أسرته من جوارنا إلى مسكن آخر بعيد فانقطعت صلتنا اليومية لكن أمه حافظات على مودتنا فكانت تزورنا من حين إلى آخر ويأتي لاصطحابها في نهاية الزيارة .

وهكذا ظلت أخباره تصل إلي بانتظام إلى أن بلغت العشرين من عمري ، وكانت أمه في زيارتنا ذات يوم ثم جاء هو لاصطحابها ولم أكن رأيته منذ فترة طويلة .. فرأيته هذه المرة بعيني فتاة ناضجة فإذا بی أراه شابا وسيما مكتمل الرجولة قوي الشخصية .. فاعترفت لنفسي بأني أحبه منذ فترة طويلة، وبدأت أتابع خطواته في الحياة بإحساس جديد فعلمت أنه قد حقق حلم أبيه الراحل في الالتحاق بكلية الشرطة .. وهو الحلم الذي أعده له منذ كان صبيا فكان يلزمه بأداء تدريبات رياضية معينة من أجله ويدربه ويعطيه ثمار خبرته الطويلة فلقد كان هو أيضا ضابط شرطة يعمل بالبحث الجنائي ولقي حتفه خلال مواجهة مع بعض المجرمين وبعد خدعة دنيئة منهم .. فشب فتاي في هذا الجو العائلي يكره الإجرام والمجرمين ويعتبرهم قتلة أبيه ويحلم بالانتقام له . 

واتصل الود بيننا وكنت كل يوم ازداد حبا له وإعجابا به وكان هو يزداد اقتناعا بي وحبا لي .. وتخرج أخيرا في كليته والتحق بالعمل وسعى من اليوم الأول للانتداب إلى فرع البحث الجنائي الذي فقد فيه أبوه عمره ، ونجحت جهوده بعد فترة وتم انتدابه إليه وبدأت اسمع أخباره من أمه ومنه هو شخصيا وبدأت انزعج مما اسمع .. فهو يمارس عمله بطريقة غير تقليدية ولا ينتظر التحريات وإنما يبحث عن المجرمين بنفسه ولا يتهاون معهم .. فأصبحوا يعرفونه في دائرته ويكرهونه جدا ويناصبونه العداء ويطلقون عليه أسماء للسخرية عديدة كالبركان والطوفان وغيرهما وبسبب اندفاعه تعرض للخطر أكثر من مرة ، وأصيب أكثر من مرة.


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لكل بركان ، فورة يهدأ بعدها وتعود الحياة إلى طبيعتها .. وأمثال فتاك من المتحمسين لأداء واجبهم مطلوبون دائما لترقية الحياة وحمايتها وكلما ازداد عددهم في مجتمع ارتفع هذا المجتمع في سلم الرقي والحضارة .. لكنه لابد أن تكون دوافعهم إلى الحماس نابعة من إحساسهم بالواجب الإنساني العام، وليست من رغبة خاصة في الانتقام من أحد ، لأن أصحاب الدوافع الخاصة يتجاوزون الحدود أحيانا إلى ما يضر ولا ينفع .. وقد يجرهم اندفاعهم إلى الإساءة إلى الحياة بدلا من خدمتها ومع ذلك فإني لست متشائما بالنسبة للمستقبل فيما يخص فتاك .. إذ إني على يقين من أن خبرة السنين التي سيكتسبها سريعا في عمله هذا سوف تعلمه أن أداء الواجب بأمانة وبغير مغالاة تتجافى مع الاعتبارات الإنسانية ، هو نوع من العبادة يجزى الله عنه عباده المخلصين .. كما سوف تعلمه بكل تأكيد أن الاعتدال في كل شيء انعكاس للاتزان النفسي والعقلي لدى الإنسان .. وأن التطرف في أي شيء

انعكاس لخلل ما في هذا الاتزان .

 

 أما رفضك له إشفاقا على نفسك من معايشة الخوف .. فهو إشفاق قد تكون له أسبابه .. لكنه لا يكفي وحده لكي ترفضي شابا ممتازا كهذا الشاب إذ أن مخاطر الحياة ليست مقصورة على من يمارسون عملهم وحدهم بل هي كامنة تحت الرماد بقدر أو بآخر في كل مجالات الحياة .. وابسطها عبور أي إنسان للطريق ولو استسلم الإنسان لهواجسه ومخاوفه لما غادر فراشه .. ومع ذلك فهل يأمن من يلزم فراشه على نفسه من الخطر؟ .. إن حوادث الاختناق بالغاز التي تخطف الحياة من النائمين في سلام وأمان ابسط مثال على كذب ذلك .. لهذا فنحن لسنا في حاجة إلى المبالغة في مخاوفنا وهواجسنا وإنما في حاجة أولا وأخيرا إلى الأيمان بأنه "لن يصيبنا إلا ما كتب الله " ثم علينا بعد ذلك أن نؤدي واجبنا في إثراء الحياة مع الحرص الطبيعي الذي يأمرنا به الله بألا نلقى بأنفسنا إلى التهلكة .. هذه هي غاية قدرتنا على اتقاء المخاطر .. ولا نملك غيرها .. ولن نملك سواها ولا أحد يعرف أين الأمان .. وأين الخطر ولا أحد يستطيع أن يحكم على المستقبل .. فخالد بن الوليد الذي لم يبق في جسمه موضع خال من طعنة رمح أو طعنة سيف ، مات في فراشه كما يموت من عاشوا حياتهم في سلام ودعة .. حتى بكى من ذلك في لحظاته الأخيرة .. وكذلك مات في فراشهم كثيرون من قادة الحروب ومن عاشوا في قلب الخطر سنوات طويلة .

 

 فإذا كان الأمر كذلك .. فاقبلي هذا الشاب بلا تردد و ابدئي معه حياة موفقة سعيدة بإذن الله .. وسوف يقنعه بكاء أول طفل له بما لم تقنعه به عشرات النصائح والمحاضرات .. إذ لا شىء يعلم الإنسان الحكمة مثل همهمة طفله الرضيع ولا شيء يدعو الإنسان لأن يرعى حدود الله في عمله وفي حياته بأقوى مما يدعوه إلى ذلك حرصه على أبنائه ورجاؤه فيهم . . وقديما قال أشجع الشجعان وأكرم الكرماء على بن طالب : الأبناء مجبنة مبخلة .. فكيف بنا نحن البشر العاديين ؟

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات