بئر الأشجان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

بئر الأشجان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

بئر الأشجان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

أقرأ في رسائل بريد الجمعة قصص قسوة الزمان وتشريده لمن أمرنا الله في كتابه الكريم بحسن رعايتهم ومعاملتهم فتتحرك في نفسي الشجون وأشعر برغبة شديدة في أن أقص عليك قصتي المتواضعة .. فلقد بدأت رحلتي مع الحياة سعيدة هانئة وكنت ابنا لأب طيب حنون يعمل في البلاد العربية وأعيش مع شقيقتي الصغرى الوحيدة في رعاية أمي في مصر .. فنظل نستخبر الأيام عن موعد عودة أبي في أجازته السنوية ونترقب اقترابها حتى يأتي حاملا الهدايا والملابس والألعاب، ويقيم بيننا شهرا ونصف الشهر فتمضي الأيام كأنها حلم من أحلام ليالي الصيف السعيدة .. ويغرقني أبي فيها بحنانه ولا يرد لي طلبا حتى كانت أمي تنصحه بعدم المغالاة في تلبية مطالبي احتراسا من الزمن الذي لا أمان له وهكذا مضت السنوات هانئة واعدة بكل شيء جميل حتى بلغت سن الحادية عشرة وعاد أبي في أجازته وطلب من أمي أن تستعد للسفر للإقامة معه في مقر عمله مع أختي الصغرى على أن أبقى أنا في رعاية جدتي حتى أحصل على الشهادة الابتدائية من مدرستي ثم يضمني إليه فيجتمع شملنا بعد ذلك إلى الأبد وكأنما أحس أبي بحزني لتركي وحيدا فضاعف من حنانه في خلال إقامته معي ثم جاء يوم الرحيل فودعني الجميع وسافروا .. وعشت مع جدتي أعد الأسابيع الباقية على امتحان الشهادة الابتدائية وكان لي عمان كانا دائمي السؤال عني في غياب أبي.

 

 وأديت الامتحان ونجحت بمجموع سعد به الجميع .. وانتظرت الفرحة الكبرى حين يعود أبي وأمي ويكافئنني على تفوقي ويصطحبانني معهما عقب الأجازة .. وجاء الجميع فعلا في موعدهم يا سيدي لكنهم جاءوا في ثلاثة صناديق سوداء ليستقروا تحت ثرى بلادهم حيث لابد أن يؤوب الغريب يوما مهما طالت غربته .. ووسط ذهولي وعويلي عرفت أن حادثا من حوادث الطريق قد أودى بحياتهم جميعا وهم في طريق عودتهم إلى بلادهم ليسعدوا بنجاحي ويصطحبوني معهم فرجعت النفوس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية .. وواجهت أنا الحياة بلا معين إلا من إيمان صبي صغير بالله وقضائه وقدره .. فلم يكد يكتمل العام على هذه العودة الحزينة حتى رحلت جدتي وراعيتي عن الحياة ووجدت نفسي وأنا الثانية عشرة من عمري شجرة وحيدة في صحراء الحياة .. وضمني عمي الأكبر إلى أسرته ، فانتقلت إلى حياة جديدة أحسست فيها بعد أيام قليلة بفارق المعاملة والجفاء بالرغم من أن عمي قد استولى على كل ممتلكاتنا بحجة المحافظة عليها لي حتى ابلغ سن الرشد فلم يؤلمني أن ألقى الجفاء من زوجة عمي وهي من لا تربطني بها صلة الدم بقدر ما آلمني أني لقيته من عمي نفسه.

 

وبعد أيام قليلة من انتقالي لبيته كان ضيق الصدر بي كأني كارثة قد حطت فوق رأسه .. مع أني لم أرد ذلك لنفسي ولم أتمنه وبعد أسابيع قليلة من وفاة جدتي بدأت زوجة عمي تحاول إقناع زوجها بإرغامي على ترك الدراسة لأعمل وأعول نفسي مع أن كل بناتها وأبنائها السبعة يدرسون بمراحل التعليم المختلفة ويحلمون جميعا بالتخرج في الجامعة وتتفاخر هي بأنهم جميعا سيتخرجون في الجامعات وسيعملون أطباء ومهندسين وصيادلة .. وفاتحتني زوجة عمي في ذلك فتوسلت إليها أن تدعني أواصل دراستي ووعدتها بأن أعمل في الأجازة بما يساعدني على تدبير ما احتاجه من كتب وملابس فكانت تقول لي ساخطة إننا محدودو الدخل ولن نستطيع الإنفاق عليك حتى تتعلم وتتخرج بعد سنوات طويلة ، فلا أجرؤ على أن أقول لها إن أبي قد ترك ما يكفي لتعليمي .. وهو في أيديكم ، أو أن أقول لها أن الدراسة بالمجان في المدارس وملابسي سوف اعمل وأتكفل بها أو أن ما يكفي سبعة أبناء من الطعام يكفى ثمانية بغير أن تزيدوا من شراء الطعام شيئا .. لكن كيف يستطيع صبي وحيد محروم مثلي أن يدافع عن وجوده.

 

هكذا اعتدت السكوت مسلما أمري لله ومحاولا أن أخفف دائما من ثقل وجودي بينهم .. فكنت أحس لسع نظراتها لي ونحن جلوس إلى مائدة الطعام وقت الظهر فلا أطيق الاستمرار وانهض في معظم الأحوال نصف جائع .. وأريحها في معظم الليالي من وجودی فأتظاهر برغبتي في النوم بغير عشاء حتى أوفر عليها انتظار نومي لكي تجمع أولادها حول المائدة وتقدم لهم أطايب الطعام التي تخصهم بها .

وتحملت عناء الحياة صابرا حتى حصلت على الشهادة الإعدادية فلم تطق زوجة عمي صبرا وشددت ضغطها على عمي لأترك الدراسة وأعمل وبعد تشاور مع عمي الآخر وزوجته قررا أن أتوقف عن الدراسة فاستسلمت لمصيري وعملت صبي ميكانيكي ، ثم طلب مني عمي أن أعمل صبي حلاق ، لأن الأسرة كما قال مبررا ليس بها حلاق واحد وسيكون مستقبلي باهرا في المهنة حين أصبح حلاق الأسرة ولعله "غفر الله له" أراد بذلك أن أوفر عليه نفقات حلاقته وحلاقة أبنائه الكثيرين فامتثلت لإرادته وعملت صبيا لحلاق وأصبحت أتسلم أجري كل أسبوع فأضعه كاملا في يد زوجة عمي مؤملا أن يخفف ذلك من ضيقها بي ومن اهاناتها المتكررة لي .. لكن هيهات يا سيدي فلقد كنت هدفا دائما لإهانتها وتجريحها وتحريضها لعمي علي .. فما أن يعود من الخارج حتى تستقبله بسيل من الوشايات الكاذبة ضدي .. وتوغر صدره علي فيندفع إلى الحجرة التي أنام فيها مع بعض أبنائه .. ويهزني بعنف فانهض مفزوعا وأنا أترنح .. فأفاجأ وأنا نصف نائم بصفعاته وركلاته فتسيل دموعي صامتة ولا أجسر على الاستفسار عن السبب .. حتى يكف فينصرف وتودعني زوجته بابتسامة شامتة منتصرة فأعود لسريري وأجفف دموعي ثم اقرأ بعض آيات الكتاب الكريم واستعين بها على استعادة سكينتي لأحاول أن أنام مرة أخرى .

 

وتكررت عملية إيقاظي من النوم لتأديبي مرات عديدة بغير أن أعرف الجرم الذي أعاقب عليه .. وذات مرة استيقظ على صوت اصطدامي بقطع الأثاث تحت وطأة الركلات والصفعات أحد أبناء عمي فانفجر في البكاء ثائرا ثورة عارمة على ظلم أمه لي وعلى أكاذيبها ضدي مذكرا إياها ببئس المصير الذي ينتظر من يفتري كذبا على يتيم ضعيف مثلي ، فلم تجرؤ على الرد عليه وانصرف أبوه فتشاركنا في البكاء حتى اشتفينا .. ولم أنس له أبدا هذا الموقف طيلة حياتي .. ومر عام على هذه الحال فنقد صبري وقررت أن اترك البيت وأخرج إلى رحمة الله بعد أن ضاقت بي رحمة عمي وزوجته.

 

وكان لي صديق في المدرسة الإعدادية رسب في شهادتها ونجحت أنا ويعمل أبوه مقاولا لأعمال المباني فذهبت إليه ورجوته أن يحدث أباه في شأني وأن يجد لي عملا عنده أعول به نفسي ، فتأثر أبوه لحالي وألحقني بالعمل في مخزن للأخشاب يملكه فما أن رأيت المخزن حتى رجوته أن يسمح لي بالمبيت فيه فلم يمانع فشكرته وأقبلت على عملي في تنظيف الأخشاب من متعلقاتها وتجهيزها لعملية أخرى .. واسترحت إلى حياتي الجديدة فصنعت لنفسي سريرا من ألواح الخشب وجعلت من كراتين الورق مرتبة ووسادة وشكرت الله كثيرا على نعمته وصليت وقرأت ما اعتدته من آيات كريمة قبل النوم ثم استسلمت للرقاد وأنا آمن لأول مرة من الركل والصفع في عز النوم .. واستقرت حياتي في العمل وكان صديقي قد نجح أخيرا في الشهادة الإعدادية بمجموع ضعيف وألحقه أبوه بمدرسة ثانوية خاصة فطلبت منه أن يعيرني كتب السنة الأولى الثانوية وادينا الامتحان معا ونجحنا ثم التحقت بمدرسة ليلية لأتقدم لامتحان الثانوية العامة نظام 3 سنوات. وانتظمت بها وعلم والد صديقي بذلك فخفف عني العمل وزاد في أجري وطلب مني أن أذاكر مع ابنه في مسكنهم ذي الغرف الخمس والابن الواحد وصمم على أن اقبع مع ابنه أكرمه الله وبارك له في ماله وصحته وأسرته  .. فأقمت مع صديقي فعلا وذاكرنا سويا هو للسنة الثانية وأنا للثانوية العامة ، فنجح هو وسعد بذلك كثيرا أبوه ونجحت أنا في الثانوية العامة بتفوق .. فسر بذلك وطلب مني أن انظم عمله في غيابه وأن أساعد ابنه في الثانوية العامة فتحمست لذلك .. وانتسبت لإحدى الكليات النظرية ومرت السنوات هادئة فحصلت على الليسانس .. وقررت أن أسافر إلى الخارج لأبحث عن مستقبلي ولأحاول استكمال دراستي ولأهرب من ذكريات مازالت تلاحقني وتؤلمني ، وفاتحت والد صديقي في ذلك فحزن وطلب مني البقاء واعدا إياي بمستقبل باهر معه، لكني ألححت عليه أن يسمح لي بالسفر راضيا عني وإلا فلن أسافر .. فأكرمني بالإذن كما أكرمني من قبل طوال السنوات الماضية .. وزاد في فضله فأعطاني عنوان شقيقه المقيم في لندن لكي اذهب إليه فيساعدني في البحث عن عمل وودعت الرجل الطيب باكيا وودعت صديقي وركبت الطائرة إلى بلاد الغربة كما ذهب أبي يوما إلى بلاد أخرى ليصنع حياته ووصلت إلى المطار فوجدت رجلا فاضلا ينتظرني خارج أبوابه رافعا لوحة صغيرة مكتوبا عليها اسمي كما يفعل المنتظرون في المطار فاتجهت إليه ففتح ذراعيه واحتضنني مرحبا بي وإذا به شقيق والد صدیقی أو والدي وفوجئت بأنه يعرف عني كل شيء وقال لي خلال الطريق من المطار إلى المدينة أنه فخور بي وبتفوقي الدراسي وبطموحي وعرض علي أن أقيم مع أسرته إلى أن أجد عملا ومأوى فاعتذرت شاكرا وأنا أتعجب لفضل هذين الأخوين وشهامتهما .. ولم يدعني الرجل أتخبط في خطواتي الأولى في الغربة فأرشدني إلى الطريق الصحيح في كل شيء فأقمت مع شاب مصري بحي "ایرلز كورت" في وسط لندن وعملت بأحد فروع محلات بيع الدجاج والبطاطس المحمرة الشهيرة ليلا .. وانتظمت بمعهد لتعليم الانجليزية نهارا .. وبعد عام من استقراري في لندن التحقت بجامعة أكسفورد وحصلت على شهادة في إدارة الأعمال والكمبيوتر .. وآن للطائر الشريد بعد طول معاناة أن يستقر أخيرا فتزوجت من انجليزية عوضتني ما حرمتني منه الدنيا من حنان وأنجبت أولادا يملأون حياتي ويمرحون أمامي فأتذكر صباي وما لقيته فيه من آلام .

ولقد مضت السنون سريعا فاستقرت أحوالي تماما وأصبحت أعمل الآن مديرا لفرع إحدى الشركات العالمية في بريطانيا ومن فضل ربي وكرمه املك فيللا واسعة على الطراز الانجليزي العتيد في شمال انجلترا وشقة في مدينة نيس بجنوب فرنسا وشقة أخرى في سويسرا .. واقضي أوقات فراغي في مسكني مع زوجتي وأولادي وهي فخورة بي وأنا سعيد بها وبأبنائي.



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول : 

تخرج منها بإذن الله إذا علمت تفسيرها .. فالزهور التي تنمو في ارض طبيعية وجو مشرق بهيج تتفتح أوراقها وتزداد نضرتها وتزهو ألوانها أكثر من تلك الزهور التي تنمو في الظل وفي جو تخيم عليه سحب الكآبة والغيوم .. والإنسان كذلك يا صديقي فهو في طفولته وصباه يمتص كل ما يتعرض له من مؤثرات وجدانية فترسب في أعماقه وتنعكس على شخصيته في ملامح وقسمات نفسية خاصة في الكبر ، ومن يتعرض لمثل ما تعرضت له أنت في صباك من قهر وإيلام وظلم لا مبرر له إلى جانب ما شهدته طفولتك من مأساة مصرع أسرتك وتحطم آمال السعادة والأمان والاستقرار معها لابد أن تمتص مسامه كل هذه المؤثرات الحزينة، فتطبع شخصيته ببعض الميول الاكتئابية وتعبر هذه الميول عن نفسها في هذه اللحظات التي تجتر فيها ذكرياتك الأليمة وينقبض فيها صدرك، وما ترديدك لهذه الآية الكريمة بصفة مستمرة سوى استدعاء لذكرى رحيل أسرتك في الغربة وإشفاق باطني من تكرارها .. حماك الله ومتعك بالصحة وطول العمر .. وكثيرون ممن شهدت طفولتهم وصباهم مثل هذه الذكريات الحزينة يلمسون في أنفسهم أنهم أسرع استجابة للحزن منهم إلى المرح كأنما يستدعون أشجانهم القديمة من بئر عميقة فتطفو مسرعة إذا تلقت أول إشارة وأنهم أسرع استجابة لهواتف الخوف منهم لدواعي الاطمئنان والثقة في المستقبل كأن تجاربهم المريرة قد علمتهم ألا يأمنوا للغد مهما كان حاضرهم سعيدا .. لهذا نقول للجميع دائما : اجعلوا طفولة أبنائكم وصباهم سعيدة وجنبوهم الأحزان ولو على حساب سعادتكم أنتم حتى تعدوهم لمواجهة الدنيا بنفوس سوية وبأكباد غير مقروحة بالأشجان فتعينهم على الصمود لاختبارات الحياة وشدائدها .. أما العقلاء من أمثالك فلا نقول لهم سوى أنه ليس من

الحكمة - وقد تجرعنا التعاسة في ماضينا - أن نفسد حاضرنا الذي بلغنا فيه شاطئ الأمان بالمشقة والعناء لحساب هذا الماضي التعيس ويكفيه ما قد خصمه من أيامنا لكي نحرص على ألا نبدد ما بقي منها في الكدر واجترار الأحزان .. فامسح ظلال الماضي الحزين من وراء ظهرك وركز أنظارك على يومك الذي تجني فيه ثمار كفاحك والذي حققت فيه بإرادتك الصلبة آمالك .. وتطلع بقلب متفائل لمستقبل أسعد بإذن الله ، فلقد نهجت نهج كبار النفوس في التعامل مع عقبات الحياة فاعتبرتها تحديات تشحذ الإرادة وتستنفر إرادة الدفاع عن النفس وتحقيق الذات واعتبرت ظالميك - حكمة منك وكرما - من أسباب نجاحك في الحياة ولم تحمل لهم حقدا ولا كراهية .. فنجوت بذلك من أغلال الحقد والمرارة التي تثقل خطى صاحبها .


وهكذا يفعل العقلاء الذين لا يتوقفون أمام أشخاص من زرعوا الألغام في طريقهم لأن الأهم عندهم هو كيف يجتازون هذه الألغام وكيف ينجون من شراكها وكيف يصلون بعدها إلى واحة السعادة أما أشخاص من زرعوها .. فحسابهم مع خالقهم .. حيث يجزي كل امرئ بما فعل ولا ينجو مجرم بجريمته وإن طال الزمن.

فاهدأ نفسا يا صديقي إنما يجزى الله الصابرين على صبرهم ويعوضهم عما لقوه من ظلم الإنسان خيرا عميما .. وتشاغل عن ذكريات ماضيك الأليمة بجمال حاضرك وإشراقه .. وحاول أن تعوض أبناءك كل ما حرمت منه من سعادة ومن أحاسيس الكرامة والأمان والعدل فلقد تمثلت في قصتك مرة أخرى القصة القديمة قدم التاريخ لمن يقسون على ودائع الله التي استودعوها فينصر الله ودائعه .. ويخزى ظالميهم وتكفي قصة نجاحك العلمي وحدها وفشل جميع أبناء عميك سواء من ظلمك أو من تقاعس عن حمايتك رغم أحلام زوجة العم الأكبر الوردية دليلا على ذلك ولا عجب لأنه ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، و"أنه لا يفلح الظالمون" .. مع خالص تمنياتي لك بالسعادة وراحة القلب.

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات