السر المكنون .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أنا رجل متوسط
التعليم عمري ٣٨ سنة سافرت للعمل عدة سنوات في إحدى دول الخليج ومهما وصفت لك ما
عانيته من آلام الغربة فلن أصور لك بعض ما تجرعته صابرا في سبيل لقمة العيش
والرزق الحلال .. وبعد سنوات من
الكفاح رأيت أنه قد آن الأوان لأن أعود إلى بلدي وأقيم بمدخراتي مشروعا مناسباً ثم
ابحث عن بنت الحلال التي أجد في كنفها الراحة والأمان.
وعدت بالفعل وأنشأت
المشروع وبدأت تجهيز منزل الزوجية .. ولم يبق إلا شريكة الحياة فكلفت أهلي بالبحث
عنها .. ولم أبالغ في مطالبي منها فلم أرد سوى البساطة في الجمال والتعليم والأهل ..
ونشط أهلي في ترشيح من يرونهن مناسبات لي، فبدأت الخطوة الأولى وهي زيارة الأهل
والتقدم إليهن ، فحققت التجربة الأولى فشلا ذريعا .. ثم الثانية .. ثم الثالثة حتى
أني لم أدخل بيتا إلا قوبلت فيه بالرفض بالرغم مما قد يبدو أحيانا في عيون العروس
من القبول والموافقة .. وسمعت خليطا غريبا من الأعذار وبعضها ضعفه واضح .. فهذه
عمها غير موافق رغم وجود أبويها ، وهذه صغيرة على الزواج وهي كبيرة عليه جدا .. فصدمت بذلك وراجعت نفسي .. لماذا يرفضني
الأهل وسني مناسبة إلى حد ما والشقة جاهزة وهي مشكلة المشاكل والمهر والشبكة
جاهزان .. بل وعندي سيارة خاصة تنتظر
العروس التي ستركبها إلى جواري.
ثم فجأة تذكرت ساقي الصناعية التي استخدمها بديلا عن ساقي التي بترت في حادث، منذ سنوات .. وما كنت أتصور أنها ستقف حجر عثرة في طريق زواجي ، أو أنها سوف تعجز عن حملي إلى بيت الزوجية مع إنسانة بسيطة مثلي، وهي التي حملتني من قبل إلى كثير من البلدان برا وجوا وبحرا جريا وراء لقمة العيش وسعيا إلى حياة أفضل.
واكتشفت السر
المكنون الذي يتحاشى الجميع ذكره ويفضلون عليه اختلاق الأسباب والأعذار التي لا
تقنع طفلا صغيرا .. فكففت عن زيارة البيوت وتواريت ألما وخجلا .. ووجدت نفسي أفكر
في السفر مرة أخرى إلى بلاد الله الواسعة
بعد أن ضاقت بي رحمة الأسر في بلادي لكني تمالكت أمري بعد فترة من المعاناة والآلام
.. وسألت نفسي ما ذنبي فيما حدث لي .. ومن من الناس من يقدم ساقه طائعا للمقصلة لكي
تبترها حتى يحاسبه الآخرون بعد ذلك على غيابها ونقصها من مؤهلاته كزوج وماذا تريد
الفتاة أكثر من زوج محب يشاركها الحياة في مودة ورحمة ويهجع إليها وتهجع إليه .. إنني
حزين يا سيدي مما أعانيه وأحسه منذ عدت إلى بلدي وظننت أن من حقي کأي إنسان آخر أن
يتزوج وأن يحلم بحقه في السعادة .. ترى هل أخطأت؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يا سيدي لا
يغلبن جهل الناس بك علمك بنفسك .. فأنت تعلم عن نفسك ما لا يعلمه عنك الآخرون الذين
اكتفوا بالحكم عليك بالمقاييس الشكلية .. فلا تدع هذا الحكم الظاهري يهز ثقتك
بنفسك أو يقلل من إحساسك بجدارتك بمن سوف تضعها الأقدار قريبا في طريقك لتشاركك
حياتك.
إن كل ما في
الأمر هو أنك لم تلتق بها بعد وسوف تلتقي بها قريبا بإذن الله .. وكثيرات هن من
يرين فيك زوجاً مناسبا برغبتك الدافقة في الاستقرار وبقوة إرادتك وشمائلك الشخصية
التي تنم عنها كلماتك وبإمكانياتك المادية المناسبة .. فلا تبتئس يا صديقي ولا
تستسلم للهزيمة في أول تجربة تخوضها على أرض الوطن وأنت من خضت معركة لقمة العيش
ببسالة في بلاد الغربة وفزت فيها .. ومن صمدت لشدائد الحياة قبلها وتجاوزتها ..
فاصمد لهذه المعركة الصغيرة - وستنتصر فيها أيضا بإذن الله وتفضل بزيارتي لنبحث الأمر معاً.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر