عودة الغائب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أنا يا سيدي
سيدة في الثامنة والعشرين من عمري تزوجت منذ 5 سنوات من زميل .. وواجهنا معا
صعوبات البداية ثم جاء الفرج مع عقد عمل في بلد عربي بعد زواجنا بثلاثة شهور عشتها
معه سعيدة فعدت لبيت أسرتي لأعيش نفس الحياة العائلية التي يظللها الخوف والتي أفقدتني
الشعور بالأمان في طفولتي وصباي .. ومضت الشهور وأنا انتظر أن يرسل إلي زوجي لألحق
به .. فلم يفعل .. وجاء في أجازته القصيرة بعد شهور ثقيلة بطيئة فتوسلت إليه وبكيت
بين يديه وكدت أن اقبل قدمه أن يصطحبني معه لكي أشاركه حياته في الغربة مهما كانت أعباؤها
.. فرفض بحجة أنه يريد أن يجنبني عذاب الغربة مع أنها ستكون جنتي وألححت عليه فعاد
زوجي إلى عمله واعدا بأن يقوم بالإجراءات ، ومضت ٣ سنوات على هذا الحال يعود كل
سنة لمدة عشرين يوما .. ويسافر بلا تحقيق للوعد، فازداد توتري وقلقي واعتدت على
المهدئات وملأني الإحساس بالملل والضياع وفي هذه الظروف العصيبة وجدت نفسي أفكر في
إنسان آخر .. مع أن رؤيته قبل ذلك لم تكن تثير اهتمامي .. صفني بأي صفة تراها لكن
هذا ما حدث ... فقد جلست معه كثيرا خلال العمل ولم يتعد الأمر أكثر من ذلك لأني
مازلت أحب زوجي الغائب دائما ، ولأنه عاد في إحدى أجازاته وأعلن أنه لن يسافر مرة أخرى
وسعدت بذلك وتحمست له ، وكنت كثيرا ما قلت له أن المال ليس كل شيء وأن الأهم هو
راحة القلب والضمير خاصة وقد أصبح لنا بيت مؤثث ونستطيع أن نبنى على هذه البداية
بكفاحنا وبتعاطفنا معا في مواجهة الحياة وبكيت وأنا ارجوه أن ينفذ وعده بعدم السفر
مادام قد تعذر عليه اصطحابي معه .. فلم تمض أسابيع حتى نكث وعده وقرر العودة للسفر
بحجة أن الحياة هنا صعبة وأن مسئولياته كثيرة ناسيا مسئوليته الأساسية تجاه زوجته
، فلم أجد بدا من أن أروي له ما تعرضت له من لحظات ضعف لم تتعد التفكير بيني وبين
نفسي في إنسان آخر .. فثار وأرغي وأزيد .. لكنه بعد قليل اعتقد أنني أبالغ لكي اثنيه
عن السفر.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ماذا استطيع أن
أقول له يا سيدتي أكثر من أن عمر بن الخطاب قد سمع خلال إحدى جولاته الليلية
ليتفقد أحوال الرعية زوجة ترجز أي تقول شعرا تناجي فيه زوجها الغائب عنها منذ شهور
في جيش المسلمين الذي يفتح العراق، فعاد مهموما إلى ابنته حفصة يسألها : كم تصبر
المرأة على زوجها إذا غاب عنها فتجيبه : ٤ شهور فيكتب إلى أمراء الجيوش ألا يطول
غياب الرجل المتزوج في الغزو عن أربعة أشهر يعود بعدها لأهله ويذهب غيره، لأن
المحافظة على كيان الأسرة أمانة لا تقل فضلا عن الجهاد في سبيل الله .
لقد قلت أكثر
من مرة أنني لا أؤمن بالزواج الطائر الذي يغيب فيه الزوج بالسنوات الطوال عن زوجته
فلا يلقاها ولا تلقاه خلالها إلا خطفا ومع عدم جدية الأسباب التي تحول بين اصطحاب
الزوج لزوجته إلى مقر عمله أو عودته بعد اكتفائه وحل مشاكله .
إن هذا الزواج
هو سبب كل الشرور التي تطفح كالبثور على وجه مجتمعاتنا وأبشعها انتشار المخدرات
بصورة مزعجة بين أبناء الغائبين لانعدام الإشراف عليهم ورعايتهم ورأيي دائما هو أنه
إما أن يصطحب الرجل زوجته خاصة إذا كانت في سن الشباب إلى مقر عمله إذا سمحت ظروفه
بذلك وإما أن يستقر في بلاده ويقاسمها ويقاسم الملايين معها حياتهم في بلادهم ، فإذا
تعذر عليه هذا وذاك لأسباب قاهرة فلا يصح أن يطول هذا الزواج الطائر بأي حال من الأحوال
عن عامين يحقق خلالهما أساسيات البداية بلا تطلعات مغالى فيها ثم يواصل الكفاح والبناء
عليها في بلاده .. أما حجة الصعوبات والمسئوليات فهي رغم وجاهتها لا تكفي أبدا
لتبرير استمرار هذا الوضع الذي يخالف الطبيعة والعرف والدين .. فإذا كان الجهاد في
سبيل الله لا يبرر غياب الرجل عن زوجته أكثر من ٤ شهور فأي هدف آخر يمكن أن يبرر
هذا الغياب بلا ضرورة قاهرة ؟
فقولي له كل ذلك يا سيدتي وواصلي الكفاح معه لكي يهيئ لك الظروف التي تجمع بينكما في حياة مستقرة هنا أو هناك لكن لا تستسلمي أبدا ومهما جرى لهمسات النفس الأمارة بالسوء مع تقديري لظروفك ومع تسليمي بالضعف البشري لأن الخطأ لا يبرر الخطأ .. ولأن الصبر على البلاء أحجي ويكفى ذلك الآن نظرا لحساسية الموضوع .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1989
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر