روبابيكيا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

روبابيكيا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

روبابيكيا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

طالعت في بريدك رسائل تمزق نياط القلب وتستدر الدموع .. لكني سأكتب لك عن مشكلة صغيرة ربما تثير ضحكك .. فأنا طالب بكلية عملية أعيش مع أبي وأمي وأختي الطالبة الجامعية ولأن كليتي تحتاج إلى الانتظام بها فإني ابذل جهدا في السفر من مدينتي إليها كل يوم وأعود مجهدا لاستلقي قليلا وارتاح .. والمشكلة أن أبى وأمي شغوفان بقطع الأثاث ومستلزمات البيت إلى درجة غير طبيعية .. ولا تفهم من ذلك أننا أثرياء فالحق أننا غير ذلك بل أن أبي كثيرا ما لجأ إلى الاقتصاد في احتياجاتنا الأساسية والضرورية ويلجأ كثيرا إلى الاقتراض من الأهل والأصدقاء ليسد شقتنا الصغيرة بقطع ضخمة قبيحة من الأثاث الجديد والمستعمل بغير حساب لإمكانية الحركة داخلها .. أو للذوق والأناقة طبعا .. أما أمي فهي تعتز بكل تافه من الأثاث والثياب والمتاع بل وحتى الأوراق المستعملة فإذا كانت قد بكت مرة لأني تخلصت من ثوب قديم مهلهل فما بالك بما تجهزت به عند زواجها الميمون من أثاث وأشياء عجيبة خرافية الشكل والحجم .

 

فهل سمعت بأسرة من أربعة أفراد تستعمل ثلاث غسالات وثلاثة بوتاجازات وثلاثة سخانات وثلاث كنبات وسريرين ضخمين كالديناصور وثلاثة دواليب وثلاث ثلاجات بخلاف أطقم السفرة والصالون والمكاتب والترابيزات والنمليات والطقاطيق والتسريحات وأماكن حفظ الروبابيكيا .. ومكتبة عملاقة ليس فيها من الكتب شيء بل مدفأة ومروحة وبعض لعب الأطفال .. وكل ذلك في شقة صغيرة مختنقة لا استطيع التحرك فيها بغير أن اصطدم بشيء.

 إن سعة الدار من سعادة المرء كما قال الرسول الكريم ونحن لا نستطيع أن نحصل على شقة أوسع لكننا نستطيع أن نتخلص من كثير من هذه الكراكيب .. فتتسع الدار لنا قليلا .. وقد بح صوتي مع أبى وأمي وجربت معهما كل شيء حتى الخصام .. لكن هيهات أن يفرطا في شيء من مخزن العفش هذا .. لأن دون ذلك خرط القتاد .. فماذا افعل قبل أن اسكب عليه الكيروسين وأتخلص منه ؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

قل رب أهد قومي فإنهم لا يعلمون .. ثم واصل دراستك وتخرج وحين تعمل وتتزوج احرص على أن تكون المساحات الخالية في مسكنك أكثر من المساحات المشغولة بالأثاث لأن هذا هو الاتجاه السائد الآن في العالم المتحضر الذي تخلص من قطع الأثاث الديناصورية كما تخلص من مخازن الأثاث التي كانت سمة المساكن في العصور السابقة أما أبواك فإنك لن تستطيع أن تغير منهما ما لم يتغيرا بدافع من الحكمة التي تفرض على الإنسان ألا يقترض لغير ضرورة وشراء الأثاث المستعمل لشقة مكتظة به ليس من ضروريات الحياة بكل تأكيد ، والتي تفرض على الإنسان أيضا أن يحسن ترتيب الأولويات في أموره المعيشية فلا يقدم غير الضروري على الضروري ولا يقتصر في الاحتياجات الأساسية ليبسط يده في الاحتياجات الثانوية كما تعلمه الحكمة أيضا أن ما لا يحتاج إليه الإنسان لا قيمة له عنده وأن الأفضل والأجدى له أن يتخلص منه بالبيع أو بالهبة لمن هو في حاجة إليه فعلا .. فاستمر في نصحهما إلى أن يستجيبا وأظن أن ظروف الحياة سوف تضطرهما إن آجلا أو عاجلا إلى ذلك بغير حاجة إلى كيروسين ولا إلى خلافه.

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات