الرنين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

الرنين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

الرنين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


نشأت في أسرة ريفية بسيطة .. وكان أبواي أميين متدینین .. فعشت حياة بسيطة فالتحقت بكُتّاب القرية وحفظت بعض أجزاء القرآن وتعلمت في المدرسة القريبة حتى أنهيت دراستي الثانوية والتحقت بكلية الطب .. فانتقلت فجأة إلى العاصمة الصاخبة فأقمت في شقة مستأجرة مع بعض زملائي .. وبعد قليل بدأت الدراسة فذهبت إلى الكلية سعيدا وانتظمت بها .. وبعد أسابيع تعرفت بزميلة في الكلية لا اعرف ماذا حدث لي عندما اقتربت منها .. فلقد انجذبت إليها كأن تيارا مغناطيسيا يجذبني إليها وكانت للعجب فتاة مكروهة من كل طالبات وطلبة الكلية لغرورها وحدة مزاجها وتبرجها الزائد .. ولم تكن إلى جانب ذلك جميلة لكن حبها تملكني تماما فظللت أفكر ليل نهار، ولم أجرؤ على مفاتحتها في شيء .. وإن كان حالي لابد قد كشفني كما أنها لم تشجعني ولم تعطني أية بادرة أمل بل مارست علي غرورها وحدة مزاجها فتدهورت حالتي النفسية ورسبت في السنة الإعدادية وسبقتني هي إلى السنة الأولى ، فأصبت بحالة اكتئاب شديدة في شهور الصيف فراح أبي قدر فهمه وجهده أن يعالجني منها بزيارة الأولياء والعرض على بعض الأطباء وانفق في ذلك كل ما يستطيع .. وحزنت أمي من أجلي كثيرا وسهرت الليالي تدعو لي وتقوم على خدمتي .. حتى تحسنت حالتي فنجحت وانتقلت إلى السنة الأولى .. لكن بقايا الاكتئاب لم تفارقني فرحت أتقدم في دراستی ببطء شدید

وفتاتي تنتقل بسرعة إلى السنوات التالية حتى تخرجت وانقطعت عني أخبارها بدون أن أحظى منها طوال هذه السنوات بكلمة مريحة أو ببارقة أمل .. ولا تغادر رغم ذلك مخيلتي ثم تخرجت أنا بعد جهد جهيد وذهبت إلى المستشفى الذي سأقضي فيه فترة الامتياز ففوجئت بها وقد عينت طبيبة نائبة في الجامعة وأنها سترأسني خلال فترة الامتياز، ولاحظت مرة أخرى الجميع ينفرون منها وأنها قد تنازلت قليلا عن بعض غرورها حتى أنها تكاد تيأس من الزواج ووجدت نفسي بلا وعي تقريبا أتقدم إليها طالبا يدها .. ففوجئت بها توافق سريعا وبدون أي شروط فطرت فرحا وأسرعت إلى بلدتي لأزف البشرى لأبي وأمي وإخوتي .. فإذا بهم يتلقون الخبر بوجوم .. وينصحونني بصرف النظر عن هذه الفتاة لأنها كانت السبب في أزمتي النفسية من قبل ولأنها لا تناسبني ودنياها غير دنياي ... الخ 

لكني لم أطق أي معارضة وأصررت على الزواج حتى لو رفض أبي مساعدتی مالیا وشجعني على ذلك أن الفتاة كانت من أسرة ميسورة نسبيا ولم تطلب مني مهرا ..  ومضيت في الاستعداد للزواج وخلال هذه الفترة توترت أعصابي فأصبحت حاد الطباع مع أسرتي فآذيت أبي وأمي كثيراً بلساني .. فكانا يصبران على أمل أن يهديني الله .. لكن الشيطان كان قد تملكني تماماً كلما تذكرت أنهما يقفان في طريق سعادتي .. وكلما اقترب موعد الزواج ساءت طباعي معهما حتى حدث قبل أسبوعين من زفافي أن نشبت مشاجرة عادية بيني وبين أمي بسبب موضوع الزواج فأنهلت عليها كالعادة أمام أبي وإخوتي لوما وتوبيخا ثم .. ثم أعماني الشيطان فإذا بي أرفع يدي وأهوى بها على وجهها أمام أبي وإخوتي الذين تسمروا في أماكنهم من هول المفاجأة .. في حين توقفت أمي عن الكلام مذهولة .. وأسرعت أنا بالخروج .. فما أن اقتربت من الباب حتى جاءني صوت أمي يشيعني بدعاء ظللت اسمع رنينه في أذني على مر السنين .. وذهبت إلى بيت عروسي لاهثا مهزوزا مما حدث ورويته لها متوقعا منها أن تلومني وتوبخني فإذا بها تقول لي إن هذا هو اقل ما كان ينبغي أن

افعله مع مثل هذه الأم السمجة !!

 

وتزوجت فتاتي التي تمنيتها في أحلامي وخاطري وقاطعت أهلي تماما كأنهم ليسوا على وجه الأرض ولم ينفقا علي كل ما يملكان لأصبح طبيبا بل ولم ينفق علي أبي البسيط كل ما يملك ، لكي ينقذني من الاكتئاب .. لكن هذا ما حدث فتوجهت بكل اهتمامي وعنايتي وحياتي إلى زوجتي وأسرتها وأقاربها ومعارفها .. ثم إلى أولادي الذين أنجبتهم منها وهم 3 أولاد  .. فما أن استقرت بنا الأحوال قليلا وجاء الأبناء حتى اكتشفت أني أتجرع كئوس العذاب من زوجتي أشكالا وألوانا كل يوم والى أن ادخل فراشي كل يوم هاربا إلى النوم من تعاستي .. وفكرت في أن اعترف بأن ما تصورته كان وهما وأن أطلقها لكني كنت أتراجع حرصا على أبنائي.

 أما أبنائي الذين صبرت من أجلهم على كل هوان وعذاب .. فقد شب الولدان الكبيران منهم متشبعين بأخلاق أمهما وطباعها وكلما تقدمت بهما السن زادا شرودا عني والتصاقا بأمهما ، إلى أن جاء يوم زجرت فيه ابني الأكبر التلميذ ونهيته عن تدخين السجائر بشراهة فإذا به ينفجر في باللعنات فصفعته فإذا به يمسك بيدي ثم .. ثم .. هل تدري ماذا فعل .. لقد بصق علي هذا الابن اللعين وتدخلت زوجتي وتدخل الولدان الآخران فأصبحت المشاجرة جماعية .. وفي قمة انفعالي وغضبي مما حدث .. وفي اندفاعي في الصياح والتهديد فوجئت بوجه أمي وهي مذهولة عقب تلقيها صفعتي الملعونة وبصور أبي وإخوتي مندهشون ينظرون إلي تقفز إلى مخيلتي.



ولكاتب هذه الرسالة أقول :

ولماذا لا نتذكر ذلك غالبا إلا بعد أن نشرب من نفس الكأس التي جرعناها لمن كانوا الأحق برعايتنا واحترامنا في الدنيا .. ولماذا لا نتعلم الحكمة دائما إلا بعد فوات الأوان وبعد أن تصبح في هذه الحكمة نجاتنا مما نقاسى منه ؟ إنك تقول يا سيدي أنك حين ارتكب معك هذا الابن الرجيم جريمته النكراء التي سيلقى عقابها في الدنيا والآخرة، أدركت فجأة عقاب السماء .. على ما اقترفت من جريمة لا تقل نكرا في حق أمك وأبيك ثم تأكدت من هذا الهاجس حين مرضت بعد ذلك وطال مرضك ، والحق يا سيدي أن عقاب السماء لم يبدأ في هذه اللحظة المشئومة وحدها وإنما بدأ قبلها بوقت طويل حين انقشعت أوهام السعادة مع زوجتك حادة الطباع المكروهة من الجميع فتجرعت معها كئوس الشقاء حتى الثمالة .

 

والحق إن توقع عكس ذلك معها لم يكن منطقيا وقد شهدت أنت بسوء طباعها وكره الآخرين لها .. ثم شهدت بنفسك سوء طويتها حين شجعتك على جريمتك في حق أمك .. ولو كانت فتاة أصيلة لما قبلت الارتباط بك بعد ما رأت مبلغ وفائك لأمك وأبيك أو على الأقل لأجبرتك على الرجوع عن الخطأ .. لكن فاقد الشيء لا يعطيه .. وهكذا كان الشقاء معها أمرا منطقيا .. وجزءا من عقاب السماء أيضا يا سيدي والقضية بسيطة جدا وقد أشرت إليها مرارا في ردود سابقة أن من عق أبويه عقه ولده، كما جاء في الحديث الشريف، وكما سوف يعرف بالألم والمهانة ابناك بإذن الله حين يتزوجان وينجبان .

والقضية أن هذه الخطيئة بالذات هي الخطيئة الوحيدة من كل خطايا البشر التي يعجل الله بالعقاب في الدنيا فضلا عما له من عقاب في الدار الآخرة كما تقول أيضا معاني الحديث الشريف .

إذن ما العجب فيما حدث لك .. وفيما ترويه ! إن العجب الحقيقي هو ألا يحدث ذلك وألا يجيء عقاب السماء في موعده .. وإلا فما الفرق إذن بين الخير والشر، وبين الأتقياء الصالحين وبين الذين ينطلقون في الحياة كالوحوش الهائمة التي لا تحركها سوى غرائزها وأهواؤها ولا تردها قيم وقيود ولا تكاليف.

 

 إنني لا أريد أن أقسو عليك .. ومع إني من المؤمنين بأنه ليس من حق الآثم أن يلقي علينا درسا في الفضيلة إلا إني أرحب جدا بدرس رسالتك الأخير أن يعيه الجميع وأولهم أبناؤك الذين أبشرهم بشقاء الدنيا والآخرة إن لم يرحموا ضعفك ويرعوا حرمتك ويكفروا عن جريمتهم في حقك ومثلهم أيضا زوجتك.

أما خطيئتك في حق أبويك وسؤالك كيف السبيل إلى التوبة وقد رحلا عن الحياة بغير أن يصفحا عنك  .. فأظن أنك قد نلت الجزاء الأول على خطيئتك في الدنيا، ويبقى العقاب في الدار الآخرة وأمره مردود لصاحبه لكن أبواب المغفرة مفتوحة للجميع دائما إذا صدقت التوبة وصح الندم .. فاستغفر الله كثيرا وأعد صلاتك المقطوعة مع إخوتك وأسرتك أقارب أبويك .. وحبذا لو أرسلت على نفقتك من يؤدي فريضة الحج نيابة عن أبويك .. فإن استطعت أن تؤديها أنت وتهبها لأيهما لكان أفضل وأرجى للعفو والمغفرة والسلام .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات