الزحام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

الزحام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


الزحام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 

أنا سيدة فلسطينية شابة عمري ٢٩ سنة ومتزوجة من شاب مصري عزيز علي وعلى قلبي عمره 31 سنة ومن أبوين سودانيين جاءا إلى مصر منذ أكثر من ٥٠ سنة

فعمل والد زوجي في سلاح الحدود "الهجانة" ولم ينجب سوى زوجي الذي نشأ وحيدا فتعلم ونما في مصر وحمل لون ترابها الأسمر ونيلها الخالد.

وواصل زوجي تعليمه حتى حصل على مؤهل تجاري من إحدى الجامعات المصرية وأحيل أبوه إلى المعاش ثم رحل عن عالمنا .. وبعده بشهرين رحلت أم زوجي حزنا على شريك عمرها وأصبح زوجي وحيدا تماما في الحياة فلا أبوين ولا أقارب ولا أهل .. فقد تقطعت الصلات بين أبويه وبين الأهل منذ سنوات بعيدة .. وحصل زوجي على إعفاء من الخدمة العسكرية وراح يبحث عن عمل بشهادته بلا جدوى واضطر أن يعمل لفترة في بناء المساكن ثم تركه لصعوبته .. وعمل جرسونا في مقهى .. وعن طريق المقهى سمع بعض الشباب عن السفر والهجرة للخارج ففكر في السفر لكنه تردد في التنفيذ إلى أن عاد ذات يوم إلى مسكنه فوجد صاحب البيت الذي يقيم في إحدى شققه قد ألقى بجميع حاجياته إلى الطريق لأنه يريد أن يزوج إحدى بناته في الشقة، وفشلت معه جميع المحاولات لحل المشكلة .. فحزم زوجي أمره وجمع ما تبقى سليما من حاجياته وباعه وتوجه إلى أقرب مكتب طيران للسفر للخارج وسافر إلى قبرص وأمضى بها فترة لم يوفق خلالها في الحصول على عمل .. فغادرها إلى أسبانيا .. وفي مدريد تعرف شخص على أبي في أحد المقاهي فعرض عليه أبي أن يعمل معه لدى إحدى الشخصيات العربية المقيمة هناك لأنه في حاجة إلى سكرتير يجيد العربية والانجليزية .. والتحق زوجي بهذا العمل وأعجب صاحب العمل به وبكفاءته فجعل منه سكرتيرا شخصيا له ومديرا لأعماله المنتشرة في عدد من العواصم العالمية .. وتفتحت أبواب الرزق أمام زوجي وأصبح ميسور الحال ويمتلك رصيدا في البنك وشقة في مدريد .. ففكر في الزواج وعرض على أبي أن يتزوجني فوافق أبي بشرط الانتظار فترة نتعرف خلالها على بعضنا البعض، وتعرفت عليه فوجدته إنسانا طيبا لا ينقطع حديثه عن مصر ويفخر بأنه مصری ، وروي لی قصة كفاحه فأعجبت بشخصيته واطمأن قلبي له وزففت إليه في زفة أصر زوجي على أن تكون على الطريقة المصرية بالزغاريد والشموع ودقة الفرح، وصلى صلى .. على النبي صلى الخ

 

وتم الزفاف السعيد وبدأت حياتي معه فازدادت محبتي له ووجدت فيه إنسانا شهما كريما .. وأنجبت له توأما ولدا وبنتا أخذا عن أبيهما سمرة تراب مصر وفي غاية الجمال واكتملت سعادتنا .. وراح زوجي يتنقل بين العواصم المختلفة لأداء عمله وبعد فترة من زواجي رحل أبي ثم أمي عن الدنيا وأصبحنا وحيدين تماما ليس لكل منا سوى الآخر .. يعوضه عن فقدان الأهل .. ويغدق عليه من حنانه وعطفه .. وراح زوجي يتنقل بين العواصم في مهام عمله .. ورفض أن يصحبنا معه في هذه الأسفار المتعلقة بالعمل لأنه أراد أن تكون أول بلد يراه ابناه هو مصر التي سيحملان اسمها في هويتهما.

وفي أول أجازة حصل عليها زوجي من عمله جئنا إلى مصر فى احتفالات العام الميلادي الجديد واستأجرنا شقة مفروشة نستطيع أن نرى منها الأهرامات وأبا الهول .. وزرنا في كل يوم مكانا جديدا وأمضينا أوقات غاية في السعادة .. والجمال .. ومع ذلك فقد أحسست بأن هناك ما يؤرق زوجي.

 

 وذات يوم وجدته جالسا في شرفة الشقة عند الأصيل ينظر ساهما إلى الأهرامات وتدمع عيناه فسألته عما به فأجابني والدموع تكاد تظفر من عينيه : ألا ترين أننا بلا أهل يسألون عنا ونسأل عنهم ویزوروننا و نزورهم؟ وأن أولادي الذين سيحملون اسم بلدي لا أهل لهم فيها ولا أصدقاء .. فانسابت دموعي معه .. وحاولت أن أخفف عنه أحزانه .. لكن بقى الجرح غائرا في نفسه.


 
 ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 تعددت الأسباب والهم واحد يا سيدتي .. حتى ليخيل إلي أحيانا أنه لم يلمس الأرض بعد من اكتملت له أسباب السعادة من كل جوانبها ومن لا يفتقد في حياته نقصا من أي نوع .. وافتقاد الأهل محنة أخرى تضاف إلى عذابات الإنسان الخاصة .. لأنه كائن اجتماعي بطبعه .. يكره الوحدة ولو كانت في قصور النعيم ، لهذا فهو يستشعر في الأعباء العائلية التي قد يضيق بها أحيانا نوعا من السعادة الحقيقية ، لأنها تشعره بما يمثله وجوده عند الآخرين من قيمة .. ولعل هذا يفسر لنا بعض أسباب هذا الحزن الغامض غير المفهوم الذي يحس به الإنسان حين يرقب أبناءه وقد كبروا واستقلوا بحياتهم بعيدا عنه .. وانعدم أو قل احتياجهم المادي والنفسي إليه .. مع أنه عاش حياته كلها يحلم باليوم الذي يستطيعون فيه أن يقوموا بأمرهم بغير الاعتماد عليه .. ذلك أن الإنسان يحتاج دائما إلى من يحتاجون إليه ومن يهتمون بأمره ويهتم هو بأمرهم ومن يمثل وجوده بينهم شيئا مختلفا عن غيابه عنهم .. لهذا قد يستشعر الوحدة وسط زحام الآخرين حين يفتقد بينهم من يمثل عندهم قيمة خاصة .. وقد يقول صادقا مع

الشاعر العربي :

إني لأفتح عيني حين افتحها

على كثير ولكن لا أرى أحدا !

أو يقول مع شاعر آخر "ليس لي في زحامهم أحد" .. لأننا بالفعل لا قيمة لنا إلا عند من تربطنا بهم صلات المودة والرحمة والتعاطف .. وعدا هؤلاء فلسنا بالنسبة لهم سوى وجوه في الزحام .. لا تعني شيئا ولعل هذا الإحساس الإنساني المؤلم هو ما أحس به زوجك وهو يطل على زحام القاهرة .. فترق مشاعره وتندى عيناه بالدمع .. فآه لو عرف من يجحدون فضل الأهل قيمة من باعدوهم قبل أن يندبوا أيامهم الماضيات ويقولوا مع القائلين :

سقيا لأيام الأهل والصحاب الذين قطعنا صلات المودة معهم ورحلوا ولن تعود أيامهم مرة أخرى ! وأواه لو عرف الإنسان كم يحتاج إلى الآخرين وكم يحتاجون

إليه.

 

لذلك كله فإني افهم يا سيدتى احتياجكما الإنساني إلى الأهل والأصدقاء في مصر واقدره تماما وسوف اختار لكما من أصدقاء بريد الأهرام من يسعدون بزيارتكما لهم حين تجيئون إليها .. وبزيارتكم في مهجركم حين تتيح لهم الظروف ذلك ومن يقيمون معكما صلات ذوي القربى ويقدرونها حق قدرها .. فاكتبي إلي من جديد اسمك وعنوانك داخل الرسالة وليس على المظروف لأننا نعدم المظاريف ولا نحتفظ بها .. وسوف اكتب لك على الفور بما طلبت مني إن شاء الله مع تمنياتي لك ولزوجك الكريم ولابنيك الجميلين بكل السعادة والهناء .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات