الوجه الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أنا رجل في
الحلقة الرابعة من عمري .. نشأت في إحدى المدن
الساحلية في أسرة شديدة التدين وكان والدي رحمه الله تاجرا حين كان للأمانة والشرف
قيمتهما في الحياة .. فحاول دائما أن يغرس في نفوسنا الشرف وكراهية الشر والحرام ..
لكنه توفي قبل أن يبلغ الأربعين من عمره وتركني مع أمي وثلاث أخوات وشقيق صغير
وكان عمري وقتها ١٦ سنة ، فتولى عمى إدارة تجارته والإنفاق علينا وكان رجلا أمينا
لكنه سرعان ما رحل عن الدنيا هو الآخر، فانتقلت التجارة إلى يد ابنه الذي لم يحسن إدارتها
وبددها كلها خلال عام أو عامين ووجدنا أنفسنا بلا مورد تقريبا .. وكنت قد أوشكت
على التخرج .. فتحملنا ظروفنا حتى تخرجت وعينت في إحدى شركات القطاع العام وتحملت
مسئوليتي عن إخوتي فقمت بتزويجهن جميعا والحمد لله .. ولم أفكر في الزواج إلا بعد أن
بلغت سن الخامسة والثلاثين، وتزوجت والحمد لله .
لكنني بدأت أعاني
صعوبة الحياة وارتفاع الأسعار، وفي هذه الظروف استدعاني رئيسي وكان يحبني ويحترمني
لاستقامتی وأمانتي وابلغني أنني سأقوم بعمل آخر اختارني له لأمانتي وتديني وسعدت
بذلك وأقبلت على عملي بكل إخلاص .. لكني وجدت نفسي بعد قليل أمام إغراءات كبيرة لم
استطع مقاومتها فإذا بي أقبل الرشوة لأول مرة في حياتي وإذا بي أقوم بأعمال غير
نظيفة ، واستمرت حياتي هكذا عامين لاحظت خلالهما أن ثقة رؤسائی بی تزداد وأن الشك
لا يساورهما في لأني مازلت متدينا أؤدي الفروض واصلي وأصوم وهيئتي العامة تدعو إلى
الاطمئنان إلي.
ومنذ حوالي عامين
رأيتني في الحلم أطوف بالكعبة وأؤدي مناسك الحج .. فنهضت من نومي متفائلا وعازما
على أن اطهر نفسي من أدران الخطأ الذي انجرفت إليه .. وفي نفس الأسبوع أعلنت
الشركة عن رحلة للعمرة فاشتركت فيها وحرصت على أن ادفع رسومها من نقودي الحلال،
وذهبت إلى هناك واعتمرت وطفت وبكيت أمام قبر الرسول كما لم ابك في حياتي ، وسألت
الله الصفح والمغفرة ، ورجعت إلى عملي وقد فصلت تماما بين ما كان وما سيكون، وتخلصت
من عذاب الضمير وعشت سعيدا لعدة شهور ثم فجأة وجدت نفسي وبغير شعور اسقط في هذه
الخطيئة مرة أخرى وأعود إلى سيرتي الأولى بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار ، مع
اختلاف واحد هو أنني ارتكب الخطيئة وأنا مؤرق الضمير والعذاب وأقرر كل يوم أن أتوقف
.. ثم أجد نفسي منجرفا إلى الخطأ من جديد حتى أوشكت على الجنون لأني أعيش بشخصيتين
الأولى هي شخصية الرجل المتدين الذي أدى العمرة ويحظى برضا الرؤساء وثقتهم بل وإشادتهم
بأمانتي .. والأخرى هي شخصية الشيطان الذي بداخلي .. فماذا افعل يا سيدي وهل
تنصحني بأن أؤدي فريضة الحج لكي أتخلص مما أعانيه ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
توقفك عن تقاضي الرشوة والقيام بالأعمال غير النظيفة خير من أدائك فريضة الحج وأنت على هذا الحال من التردد والضعف أمام مغريات الشيطان .. لأنها في مثل هذه الحالة لن تكون سوی مُسكن قد يفقد أثره بعد قليل كما حدث مع العمرة فجاهد نفسك أولا حتى تطهرها من أدرانها .. وامتحن قوة إرادتك مرات ومرات حتى تتأكد تماما من أنك قد فصلت بين ماضيك غير الأمين وحاضرك ثم اذهب بعدها للحج تكن الفريضة جائزة لك على مغالبتك لنفسك وتثبيتا لإيمانك وقدرتك على التخلص من الخطيئة .. أما إذا استمر الحال على ما هو عليه فإني أخشى عليك من عواقب هذا الانقسام الخطير في شخصيتك الذي يمكن أن يورثك الجنون فعلا وعندها لن يفلح مال حرام في إنقاذك منه ولن تسعد بحالك مهما جمعت من أموال الدنيا .. ولست أظنك ترضى لنفسك بأن تكون ممن عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله:" إذا غضب الله على قوم رزقهم من حرام .. وإذا اشتد غضبه عليهم بارك لهم فيه" .
وأنت الآن فيما يبدو ممن اشتد غضب الله عليهم وينتظرهم سوء المصير لأن الله قد ستر أمرك حتى الآن ولم يعجل لك العقاب في الدنيا ، فانقذ نفسك من هذا المصير البائس فلا خير في صومك وصلاتك إن لم يرداك عما تفعل .. ولا قيمة لرأى الآخرين فيك وثقتهم في أمانتك لأنك تعرف جيدا أنها ثقة في غير أهلها .. وأمانة لا تستحق اسمها ولأنك من ينظر في المرآة كل يوم فيعرف بقلبه وضميره هل اسود وجهه من سوء أفعاله أم لا بغض النظر عن الوجه المزيف الذي تطالع به الآخرين .. فماذا يجدي احترام الآخرين لك وأنت من لا يحترم نفسه ويراها بحق غير جديرة بالاحترام وماذا يجديك لو كسبت الدنيا بأسرها وخسرت نفسك ؟ إنه جهاد مع النفس الأمارة بالسوء .. فخضه بشجاعة تفز برضوان من الله أكبر .. وتسترد سلامك النفسي واحترامك لنفسك وراحة قلبك وضميرك ، وماذا تساوي الحياة بغير كل ذلك مهما وجدنا بين أيدينا من مال ؟
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر