الشعر الذهبي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
اقرأ بريد الجمعة
كل أسبوع فأجد فيه تخفيفا عن آلامي التي ما كنت أريد أن أبوح لك بها إلا بعد أن
يقضى الله فيها أمرا كان مفعولا .. فأنا رجل في الثلاثينات من عمري تزوجت منذ 9
سنوات وسعدت بحياتي وبزوجتي وبعد عامين من زواجي وهبنا الله طفلة رائعة الجمال
فرحنا بها فرحة طاغية .. وبعدها بسنة أخرى انعم الله علينا بطفلة أخرى لا تقل عنها
جمالا فنشأتا معا وملأتا حياتنا بهجة وسعادة .. وكان فارق العمر بينهما غير محسوس
فاعتقد الكثيرون أنهما توءم .. خاصة حين بلغت طفلتي الكبرى الرابعة من عمرها وبلغت
الصغرى الثالثة.
وذات يوم منذ عامين ونصف تقريبا كانت زوجتي تبدل
لطفلتها الكبرى ملابسها فأحست بغريزة الأم أن هناك شيئا غير عاديا في الجانب
الأيمن من بطنها .. ونقلت إلي وساوسها فحملناها إلى طبيبتها فلم تستطع أن تخفي عنا
قلقها وطلبت إجراء بعض الأشعة فأجريناها فجاءت بأقسى ما يمكن أن ينتظره أب أو أم،
وهو أن هناك وحشا يفتك بالكلية اليمني لطفلتي الصغيرة البريئة ذات الشعر الذهبي
والتي لا يزيد عمرها على ٤ سنوات .. كيف
حدث هذا .. العلم عند ربي .. وعند الأطباء الذين قالوا أنه لا يصيب الأطفال في هذا
المكان إلا بنسبة واحد في المليون .. وتجلدنا بقدر ما نستطيع واستسلمنا لقضاء الله
وقدره وبعد أيام أدخلناها إلى غرفة الجراحة لتخرج منها بعد ٤ ساعات بكلية واحدة ..
وبدأنا رحلة عذاب جديدة مع العلاج الكيماوي حتى لا ينتقل الوحش إلى الكلية الباقية
واستمرت جلساته ثلاثة أشهر أدعو الله من كل قلبي ألا يعاني أحد بعض ما عانيناه أنا
وزوجتي فيها.
وبدأت طفلتي تستعيد حيويتها وبدأ شعرها الذي كان
قد سقط ينمو من جديد .. وبدأنا نلتقط أنفاسنا قليلا .. وانتظمنا في عرضها على
الطبيبة التي تشرف على علاجها وبعد ٦ أشهر من توقف العلاج ذهبنا لزيارتها
الزيارة الدورية فإذا بها تفحصها ثم تطلب إجراء أشعة جديدة لها .. فمادت الأرض بي
حتى كدت افقد توازني لأني عرفت من قبل ماذا يعني هذا الطلب لكني تمسكت بالأمل
وذهبنا إلى عيادة
طبيب الأشعة فإذا به ينزل فوق راسي ورأس زوجتي بالحقيقة المرة وهي أن الوحش قد
انتقل من الكلية اليمنى إلى الكلية اليسرى ولابد من استئصال الباقية قبل أن ينتشر
في باقي أجزاء الجسم
وسلمنا الأمر لصاحبه وسألنا ماذا نفعل فانقسم الأطباء من حولنا إلى فريقين .. أحدهما
يرى أن اترك طفلتي لأقدارها بلا علاج ويكفيها ما عانته خلال العامين الأخيرين ..
ولا داعي لتعذيبها أكثر مما تعذبت .. أما الفريق الآخر فقد كان يرى أنه على المرء
إلا يفقد الأمل في رحمة الله مهما كان واهيا ولابد من استئصال الكلية الوحيدة ثم
تعيش ابنتي بعدها على جلسات الغسيل الكلوي مرتين كل أسبوع لمدة سنة ونصف أو سنتين
حتى يتأكدوا تماما من عدم ارتداد الوحش إلى أي جزء من الجسم .. فيقوم الأطباء
بعدها بزرع كلية لها تتبرع بها الأم وتعيش ابنتي بعدها حياتها التي قدرها الله لها
.
واخترت بالطبع رأي الفريق الثاني، وبدأنا أولى خطوات الاستعداد للجراحة الكبرى، بإجراء جراحة تمهيدية صغيرة لوصل أحد شرايين طفلتي بأحد أوردتها حتى يصبح ممكنا بعد الجراحة أن تجرى لها عمليات الغسيل ودخلت طفلتي غرفة الجراحة للمرة الثانية خلال اقل من سنة وأجرت الجراحة التمهيدية ففشلت والأمر لله ودخلت الغرفة مرة أخرى بعد أيام وأجريت لها مرة أخرى ففشلت أيضا ولا حول ولا قوة بالله .. فقرر الأطباء الاستغناء عنها بجراحة ثالثة لإدخال قسطرة في صدرها لكي تتم من خلالها عملية الغسيل المنتظرة .. وتم ذلك أخيرا وبدأنا نستعد لإجراء الجراحة الكبرى وجاء اليوم المشهود في الصيف الماضي ودخلت ابنتي التي كانت قد بلغت ست سنوات غرفة العذاب للمرة الخامسة خلال عامين فاحتضنتها وقبلتها ، قبل أن تدخل الغرفة كما تعودت في المرات السابقة خوفا من ألا أراها مرة أخرى وأغلق باب الغرفة عليها ٤ ساعات لا يعلم إلا الله كيف مرت علينا وأنا وأمها وبعض الأهل بجوار الغرفة لا نستطيع الجلوس ولا الوقوف وتسح الدموع من عيوننا بغير إرادة منا .. ولا تكف شفاهنا عن التمتمة بآيات القرآن، وخلال ذلك كله لا أخلو من شعور بالذنب لأني اخترت أن أعذبها بكل هذه الجراحات وهذه الآلام .. وانتهت أخيرا أطول لحظات العمر وخرجت ابنتي من الغرفة بلا كلى نهائيا وانتهت المحنة مؤقتا ليبدأ العذاب الأكبر .. وهو جلسات الغسيل الكلوي لطفلة صغيرة عمرها ٦ سنوات محرومة من بذل النشاط أو المبالغة في اللعب ومن شرب السوائل بكثرة .. ومن عشرات الأنواع من الأطعمة ثم يأتي موعد الغسيل فأحملها إلى المستشفى وأضعها فوق السرير ويتم تركيب خراطيم جهاز الغسيل في جسمها ويتمزق قلبي وأنا أرى دمها يخرج من جسمها ليمر على فلتر لتنقيته من السموم ثم يعود إليها مرة أخرى في أنابيب متصلة طويلة ويستمر ذلك ٤ ساعات متصلة ثم تتكرر العملية بعدها بثلاثة أيام بكل تفاصيلها .. وليس هذا فقط هو كل معاناتها فهناك أيضا جلسات العلاج الكيماوي التي استأنفناها ففعلت بها ما فعلت حتى سقط شعرها الذهبي الأصفر كله .. وألبسناها قبعة لكي تداري رأسها العاري .
وتحملت الطفلة
الصغيرة كل ذلك بصبر كصبر المبتلين .. وتحملناه معها لكني لاحظت بعد فترة أن فترات
نومها قد بدأت تطول وأن شهيتها للطعام قد انعدمت تماما وبدأت معدتها تطرد كل ما
يدخلها وكان ذلك نذيرا بشيء لم يلبث أن حدث بعدها بقليل فأصيبت بنزيف داخلي
وغيبوبة خلال إحدى جلسات الغسيل وتم نقلها إلى غرفة داخل المستشفى وطالت الغيبوبة أياما
وأياما كنا خلالها نقلبها من جنب إلى جنب حتى لا تصاب بقرحة الفراش ووسط كل هذا
العناء كان لابد أن تجرى لها عمليات الغسيل الكلوي حتى لا تتسمم فكانت تجرى لها عن
طريق الغشاء البريتوني فتستغرق الجلسة عشرين ساعة كاملة بدلا من ٤ ساعات وكانت
خلالها تتلقى غذاءها بخرطوم يصل من انفها إلى داخل معدتها لأنها فقدت القدرة على
البلع، وطوال هذه الأيام لم نكن نملك أنا وأمها إلا أن نتوجه إلى الله بالدعاء أن
يفرج عنها وعنا الكرب وأن يرحم طفلتي من عذابها فدعوته والدمع السخين يهطل كالمطر
من عيني أن يرحمها برحمته وأن يأخذها إلى جواره الكريم لكي تستريح من آلامها.
وانتظرت رحمته
في كل لحظة خاصة بعد أن مضى شهر كامل عليها وهي في الغيبوبة ثم فوجئت بها ذات صباح
تتحرك .. ثم تتأوه .. ثم تتكلم .. ثم تطلب الطعام .. فانتفض قلبي وأقبلت عليها
اقبلها وأنا لا اصدق عيني ولساني لا يكف عن الشكر والحمد لله رب العالمين .. له الحمد وله الشكر
دائما وأبدا.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إن ربا قد
كفاك ما كان بالأمس
سيكفيك في غد
ما يكون
هذا هو إحساسي القوى يا صديقي بعد أن قرأت رسالتك المؤلمة التي نكأت في قلبي جروحا قديمة .. نعم .. نعم .. سيكفيك ربك في غد ما يكون بإذن الله .. بعد أن تجرعت ابنتك البريئة كل هذه الآلام .. وبعد أن شربت أنت وزوجتك كأس المرارة طوال العامين الأخيرين فلابد لليل من آخر ولابد من يوم يجزي الله فيه الصابرين عن صبرهم ويصيب برحمته من يشاء ومن أحق بمثل هذا اليوم من أسرتك الصغيرة ؟ إن الشعر الذهبي سوف يعود إلى رأس ابنتك الجميلة بإذن الله .. وسوف تغرد العصافير من جديد في عشك الصغير فإن طال بنا العمر فكن بشيري إن شاء الله بخبر انهزام الوحش وتراجعه النهائي عن جسد ابنتك .. وبخبر إجراء جراحة زرع الكلية التي ستكون آخر الآلام والأحزان إن شاء الله وبخبر عودة ابنتك إلى حياتها الطبيعية لتعيش كما يحيا الآخرون ويعوضها ربها عما عانت خيرا عميما .. وإني لفي الانتظار .. مع كل الأمنيات الطيبة لك ولابنتك ولأسرتك الصابرة .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر