تحسين النسل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

تحسين النسل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

تحسين النسل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989



أنا يا سيدي فتاة عمري ٢٤ سنة سمراء جذابة طويلة أنيقة حلوة الملامح وعندي قدر كبير من الحنان والطيبة ولا احمل لأي إنسان في الوجود كراهية ، وأنا أعمل في شركة خاصة بمؤهل متوسط، ومديري رجل فاضل وطيب القلب وكذلك جميع من حولي .. فمنذ فترة كانت عندي سيارة صغيرة ثم بعتها ، وذات يوم كنت جالسة في مكتبي فدخل إلي شاب أسمر طويل ووسيم يسأل عن شيء ما وانصرف ثم رأيته بعد ذلك يقود سيارته وعندما عاد مرة أخرى صارحته برغبتي في شراء سيارة مماثلة لسيارته فوعدنی بإرشادي إلى سيارة مثلها بسعر معقول .. ووفى بوعده فعلا وساعدني في عملية شرائها بسعر مناسب ثم بدأ يتصل بي للاطمئنان على السيارة ، وقابلني عدة مرات مصادفة أمام الشركة .. وارتحت إليه من أول وهلة وأحببته وأحبني وتصارحنا واتفقنا على الارتباط ، وبعد فترة جاء مع أسرته ليزورني في البيت .. فقابلت أباه لأول مرة ووجدته رجلا فاضلا وكذلك أمه السيدة المحجبة الوقور وأخته الفاضلة ، وجلسنا نتبادل الأحاديث ومر الوقت سريعا وغادرت الأسرة بيتنا وأنا في قمة السعادة .. وذهبت إلى مكتبي في اليوم التالي وأنا أطير على جناح الأحلام .. ففوجئت به يتصل بي ويبلغني بأن أبويه قد رفضا الموافقة على زواجه مني .. لماذا ؟ هذه هي الأسباب يا سيدي ، أو هذه هي الحيثيات التي أصدروا على أساسها حكمهم بإعدامي وإعدام حبي وأملي في السعادة.


·       أن أبي متوفي : وما ذنبي في ذلك ؟ أليست هي إرادة الله.

·       أن مؤهلي متوسط وهو مهندس مع أنهم كانوا يعلمون بذلك قبل أن يجيئوا لزيارتنا وقد طلب مني فتاي أن اترك العمل وأتفرغ للبيت بعد الزواج فوافقت على ذلك بلا تردد .

·       أنه لا شيء عندي ارتكن إليه .. أي ليس عندي مال وغيره مع أنى لست معدمة والحمد لله ومع أن المال لا يصنع السعادة كما يعرف الجميع.

·       السبب الرابع فهو ما أريد أن أشكو إليك منه بالذات وأستجير بك عليه .. فلقد قالوا يا سيدي أنني سمراء .. وهو أسمر ووالدته تريد تحسين النسل .

 

فقل لي بربك أليس تحسين النسل هذا في الحيوانات وليس في الإنسان الذي خلقه الله وكرمه !

لقد اسودت الدنيا في وجهي وحزنت كثيرا وحاولت أن اقتل حبه في قلبي وقاومته كثيرا .. وقاوم هو حبي أيضا من جانبه وانقطعت الصلة بيننا لمدة 8 شهور كنت أراه خلالها يطوف ليلا بالقرب من بيتي ليراني من حيث لا أراه ويتصل بي تليفونيا ليسمع صوتي بغير أن يتكلم.




ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

راجعت هذه الأسباب الأربعة التي بنت عليها أسرة فتاك رفضها على مبررات القبول التي يقضي بها الشرع والدين والعدل والعقل فلم أجد لها اصلا فيها .. ولم أجد لها سندا .. فالتكافؤ الاجتماعي والثقافي بل والمادي أيضا متوافر بينكما إلى أقصى الحدود ، ولا تؤثر فيه حكاية المؤهل المتوسط هذه لأنه ليس معيارا للمستوى الثقافي الذي يضمن التواصل بين الزوجين ولأنه سبب لا يتوقف عنده من وهبهم الله روح الإنصاف والعدل كما لا يؤثر فيه نقص المال الوفير لأنه ليس سببا مقنعا للرفض ولأن ديننا ينهانا عن أن نرفض من أجله من نرتضي دينه وخلقه أما أنك يتيمة الأب فذاك من قدر الله ، وما لا يملك الإنسان من أمره شيئا لا حيلة له فيه ولا يسأل عنه، والمهم هو كيف حافظت على نفسك وكيف ألزمت نفسك بقيم دينك ونواهيه .

 

 وكلماتك تنم عن روح خيرة ترجو الخير للآخرين وتطلب السعادة لنفسها وليس من العدل أن يتوقف أحد عند هذا السبب أيضا لرفضك أما مسألة تحسين النسل هذه فهذا ما لا استطيع تصوره وما ألوم أبويه كثيرا عنه .. إذ كيف تتعارض سمرة الأبوين مع حقهما المشروع في السعادة والوفاق .. ومن قال أن بياض البشرة وحده كفيل بإنجاب أبناء أصحاء نجل العيون .. بيض الوجوه ؛ ومن أدراهما أن ابنهما إذا تزوج من شقراء لن تتغلب العوامل الوراثية عنده على عواملها الوراثية فينجب أطفالا سمرا مثله .. ومن قال أن السمرة ضد الجمال وهي في حد ذاتها جمال من نوع خاص يهواه الكثيرون ثم من يعلم الغيب إلا الله يا آنستي ومن يستطيع أن يحكم على ما سوف يكون إلا هو جل جلاله.

 

إنني أميل إلى الاعتقاد بأن فتاك غير متمسك بك بقوة مع تمسكك به ورغبتك فيه .. وإلا لاستطاع اقناع أبويه بالتغاضي عن هذه الأسباب غير الجادة ولأكمل مشوار السعادة معك .. فالأبوان قد يرفضان وقد يسجلان اعتراضهما .. لكنهما في النهاية لا يستطيعان إرغام ابن رشيد على غير ما يريده ولا يتمسكان إلى النهاية بعنادهما إذا لمسا فيه صدق الرغبة فيمن اختارها وصدق التمسك بها  .. فهما لا ينشدان في النهاية سوى سعادته فإذا كان الأمر كذلك فطالبيه بأن يبذل شيئا من الجهد والمهارة في إقناعهما وأن يستبدل طوافه ببيتك ليلا لكي يراك بجهد أكبر مع أبويه يذكرهما خلاله بأن لهما ابنة في سن الزواج قد تعرضها الأيام لمثل هذا التعسف في تقدير مؤهلاتها .. وليسألهما عما سوف يحسان به من مرارة تجاه من يظلمون ابنتهما ومن يقفون حجر عثرة في طريق سعادتها لمثل هذه الأسباب غير الجادة .. وعندها قد يراجعان نفسيهما .. وقد ينصفانك لأننا لا نستقبح الظلم أحيانا إلا إذا تعرضنا له وعرفنا مرارته .. حماك الله من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ومن قسوة أحكام البعض علينا إذا نحوا المشاعر جانبا وتعاملوا معنا بالمنطق الحسابي وقواعد علم الوراثة وحدها.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات