أشجان عابرة
ألا يحدث لك أحيانًا أن
تلتقي بإنسان تعرفه أو لا تعرفه وتسمعه يتحدّث إلى غيرك بأسى فتشعر فجأة بالشجن
الغامض يتسلل إلى نفسك ، وتجد نفسك بعد انتهاء اللحظة أقل ابتهاجًا بالحياة وأكثر
ميلاً للحزن والصمت والتأمل ؟!.
أنا شخصيًا يحدث لي ذلك في
مواقف ولحظات أبعد ما تكون عن الحزن والكآبة ، وقد تجرأت ذات يوم وتحدّثت في هذا
الموضوع مع صديق لي هاوٍ لعلم النفس ، فنفى أن يكون ذلك من الميول الاكتئابية
وأكّد لي أن المكتئب تنحصر اهتماماته وأحزانه غالبًا في ذاته ، ولكن قمة السرور قد
تكون في بعض الأحيان معادلة لقمة الاستعداد للحزن ، ولهذا فإنه يمكن بسهولة أن
ينتقل الإنسان من هذه إلى تلك في لحظات إذا استثيرت أحزانه القديمة ، أو تلقّت
منبهًا خارجيًا يجددها ويستدعيها من مكامنها .. كما أن إشارة الاستدعاء هذه قد تجئ
في موقف حزين .. وقد تجئ أيضًا في موقف لا يوحي للآخرين بالحزن . ولا غرابة في ذلك
لأن أثر المؤثرات الخارجية على النفس قد يختلف من إنسان إلى آخر تبعًا لحالته
النفسية وطبيعته الشخصية التي قد تستجيب لدواعي الحزن بأسرع مما تستجيب لدواعي
الابتهاج أو العكس .
فإذا كان الأمر كما يقول لي
صديقي هاوي التحليل النفسي فلا بأس إذًا بأن أحدثك عن بعض المواقف العابرة التي
أثارت أشجاني وسلمتني لفترة غير قصيرة بعدها للتأملات والصمت والحزن الشفيف الغامض
.
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
في الكعبة المشرفة ذات صباح
بارد نسبيا منذ سنوات ، ابتهجت حين دخلت ساحة الحرم ولمست قلة الزحام فيه في ذلك
الوقت المبكر من الصباح ، ووجدتها فرصة نادرة لأن استطيع أن ألمس أستار الكعبة
وألصق صدري بها و أناجي ربي بما تحلو لي به المناجاة ، وفعلت ذلك بالفعل و شعرت
بسكينة شديدة وسلام غريب ، وتهيأت لأن أغادر موقفي إلى فندق قريب لأشرب قهوة
الصباح وأقرأ الصحف وأنا في هذه الحالة المعنوية الطيبة ، فإذا بي أري بجواري سيده
شابه جميله في العشرينيات من عمرها ، تحمل طفلا وليدا على ذراعها .. و تمسك بيد
الطفل الوليد , و تلمس بها أستار الكعبة و تقول له بصوت هامس :قل يا رب اشف ماما
.. قل يا رب اشف ماما من أجلي .. قل!
والطفل الوليد لا ينطق ولا
يتكلم بالطبع ولا يفهم أبعاد الموقف الأليم ، لكني فهمته للأسف .. ووجدت نفسي أهتف
بحرارة وأنا متعلق بأستار الكعبة وظهري لهذه السيدة : اللهم استجب لدعاء هذا الطفل
الصامت لأمه ولا تردهما خائبين .. اللهم اشفها واشف كل مريض .. آمين يا رب
العالمين .. ثم غادرت الحرم وقد تبدد جزء كبير من السكينة التي شعرت بها من قبل ،
وصاحبتني صورة هذه السيدة الشابة في مجلسي بالفندق بعد ذلك وتساءلت في أعماقي عما
تشكو منه هذه الأم الصغيرة ، وهل هو المرض اللعين الذي تقشعر الأبدان لذكره ؟ .
وهل هي من المقيمات بهذا البلد مع زوجها وأسرتها ، أم تراها قد جاءت من بلدها
معتمرة لتتشفع بالمكان الطاهر في الاستجابة لدعائها ؟. وتسلل الشجن الغامض الشفيف إلى
نفسي فرافقني لفترة طويلة من ذلك الصباح، ولا أزال أتذكر حتى الآن صورة هذه الأم
الصغيرة الجميلة وهي تدفع بابنها الطفل في اتجاه الكعبة وتهمس له طالبة منه دعاء
الصامتين!.
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
في ميناء الإسكندرية منذ
أكثر من عشرين سنة كنت أقف على الرصيف وسط عشرات من الرجال والنساء والأطفال
ينتظرون ذويهم العائدين بالباخرة من إيطاليا ، وبيننا وبين الممر الذي يمشي فيه
الركاب من باب الباخرة إلى صالة الجمرك حاجز من السلاسل الحديدية ، وقد بدأ الركاب
يغادرون السفينة فلا يكاد يظهر احدهم أمامنا حتى يتهلل أهله المنتظرون ويلوحون له
بحرارة وابتهاج ويقولون له : حمدًا لله على السلامة ، ويبادلهم الركاب كلمات الفرح
والشوق والابتهاج ويلوح لهم بحماس قبل أن يتخذ طريقه إلى صالة الجمرك ويغيب عن
الأنظار ، وكغيري من المنتظرين ابتهجت برؤية من كنت أنتظره ولوحت له بيدي بحرارة
وتبادلت معه كلمات الترحيب والتهنئة بسلامة الوصول ، وقبل أن أغادر موقعي إلى
الباب الخارجي إلى الميناء لمقابلته ، رأيت راكبًا في الأربعين من عمره ومعه زوجته
وطفلان ، يتجهون إلى صالة الجمرك والرجل يقول للمنتظرين بابتسامة حزينة : ونحن .. ألا من أحد يقول لنا حمًدا لله على
السلامة !.
فمصمصت بعض السيدات
الواقفات بجواري شفاههن تأثرًا وقالت أكثر من واحدة : يا عيني !. ووجدت نفسي بغير
أن أدري ألوح له بيدي قائلاً : حمدًا لله على سلامتكم ! .. فتتسع الابتسامة
الحزينة على شفتيه ويشكرني بامتنان ثم يتوجه بأسرته لباب الخروج وأستغرق أنا في
تأملاتي فأتساءل .. ترى ماذا قطع بينه وبين الأهل فغابوا عن انتظاره ؟. ومن أي
رحلة غربة طويلة تقطّعت خلالها الأسباب ببينه والأهل رجع ؟. وأتذكر كلمة السيدة
التلقائية : يا عيني !. فأفسرها في ذهني بأنه : يا عيني حقًا على من لا أهل له ولا
أحباء ولا وطن ينتظره فيه من يسعدون برؤيته ويفتقدون غيابه وتفسد عليّ كلمات هذا
العائد الذي لا ينتظره أحد ، بعض ابتهاجي بعودة من جئت إلى الميناء لاستقباله !.
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
في بيت إحدى قريباتي منذ
بضع سنوات ، فاتني حضور زفاف ابنتها لسفري وقتها إلى الخارج فتوجهت إلى بيتها بعد
العودة مهنئًا ومعتذرًا ، وأرادت أن تعوضني عن بعض ما فاتني فعرضت عليّ فيلم الفرح
في الفيديو ! واجتمعت الأسرة حول التليفزيون تتابعه معي وهم مبتهجون ويستعيدون
ذكريات الحفل السعيد ، وبدلاً من أن أشاركهم ابتهاجهم إذا بي أركز أنظاري على شاب
من أفراد فرقة الزفة بدا لي نحيفًا وسقيمًا وهو يدق بيده على المزهر الكبير ووجهه
تكسوه علامات الألم والإجهاد والضيق ، فأنفصل تمامًا عمن حولي وأتخيل أن هذا الشاب
مريض بالكلى والسكر لكنه يغالب آلامه وأمراضه من أجل لقمة العيش ، وأنه يغني
للسعداء في ليلة زفافهم وهو الحزين المطعون في قلبه ومشاعره الذي فشل في أن يتزوج
بفتاته بسبب مرضه وفقره وقلة حيلته .. فيعد نفسه بعد أن فقد الأمل في الزواج بمن
يحب ، بأن يزوج شقيقه الوحيد الصغير ذات يوم ويقسم على أن يرقص بين يديه في ليلة
زفافه ابتهاجًا ولو فاجأته غيبوبة السكر ! . ثم استغرقت في تفاصيل هذه القصة
الحزينة التي نسجتها في خيالي وكتبتها فيما بعد بعنوان "ليلة سعيدة"
وانتهى عرض الفيلم فترك أثره البهيج على الجميع ما عداي !
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
في مكتب لنقل الأثاث
بالسيارات منذ حوالي ثلاثين عامًا .. جلست مع شقيقي منتظرًا انتهاء صاحب المكتب من
الحديث مع رجل مسنّ بسيط المظهر وشاب صغير لا أدري لماذا شعرت بانكساره وحزنه
بالرغم من أن المقام لا يثير الأحزان ، وكان الرجل يتفق مع صاحب المكتب على
استئجار سيارة لنقل أثاث هذا الشاب الصامت إلى بيت الزوجية الجديد ، والتفت صاحب
المكتب إلى الشاب مهنئًا وسأله عن حجم الأثاث المطلوب نقله ، فراح الشاب يصفه له
في حرج ، فإذا به لا يعدو بضع قطع بسيطة من الأثاث الرخيص ، فقال له صاحب المكتب
إنه لا يحتاج لسيارة كبيرة وإنما إلى سيارة نصف نقل صغيرة ثم حدّد الأجر المطلوب ،
فرجاه الرجل المسن تخفيضه لأن هذا الشاب هو ابن شقيقه .. ويتيم .. ولا سند له ولا
مال ، وقد دبّر تكاليف زواجه بمعجزة من معجزات السماء ولربما اقترض أيضًا أجرة هذه
السيارة !. والشاب يستمع لما يقول عمه حاني الرأس وبؤس الدنيا كله في وجهه ،
فيستجيب صاحب المكتب لرجاء الرجل ويخفض الأجرة بعض الشيء .. ويشكره العم داعيًا له
بالخير وينصرف مع ابن شقيقه ، وقد حلّ على المكان كله جو من الشجن الغامض الثقيل
وننهي مهمتنا مع صاحب المكتب ونخرج وليس في مخيلتي سوى صورة هذا الشاب المنكسر
وعمه يترافع عنه وعن ظروفه فيخطئ التعبير أحيانًا ويجرح كرامته بغير قصد .
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
˙˙
أمام بيت إحدى فتيات الأسرة
بالمدينة الصغيرة .. والليلة ليلة زفافها وقد وقفت العروس الشابة إلى جوار عريسها
أمام البيت واصطفت أمامهما فرقة الزفة تغني أغانيها البهيجة ، ومن حولهما الأهل
والأصدقاء ، وقفت بين الحاضرين أحضر الزفة التي ستطول لنصف ساعة على الأقل قبل أن
ينتقل العروسان إلى نادي المدينة . ويشهدا الحفل الساهر ثم يسافرا بعده إلى بيت
الزوجية في مدينة أخرى . وتأملت العروس الشابة وهي واقفة عند مدخل باب بيتها الذي
تربّت فيه بين إخوتها وأهلها ، وآن لها الآن أن تغادره إلى بيت آخر ومدينة جديدة ،
فإذا رجعت إليه بعد ذلك فكما يجئ الضيف إلى بيوت الآخرين لفترة قصيرة وإقامة مؤقتة
، وقد تبدد من نفسها إلى الأبد إحساس المقيم أو صاحب البيت ، فإذا بي أشعر بأسى
غير مفهوم وسط دقات الطبول وأغاني المنشدين ، وأتلفّت إلى صديقي الواقف إلى جواري
الذي لا تربطه صلة قرابة من أي نوع بالفتاة أو بعريسها فأجد الدموع في عينيه .
وأنظر إليه متسائلاً فيقول لي معتذرًا : عفوًا فأنا لا أستطيع أن أحبس دموعي كلما
شاهدت فتاة صغيرة تغادر بيت أهلها وأمها وإخوتها لتذهب إلى بلد آخر غريب عنها
وحياة جديدة مجهولة لها لا تعرف إن كانت ستسعد بها أم ستشقى ؟. فهززت رأسي متفهمًا
وأنا أشعر لأول مرة بأني قد وجدت من يشاركني هذا الإحساس الغامض ويعبّر عنه بما لا
أستطيع من كلمات !.
˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙˙˙·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·˙˙
لا مكان محددًا .. ولا
تاريخ أيضًا لهذا الموقف ، وإنما هي أية لحظة يستمع فيها الإنسان لأغنية لا تبدو
للآخرين حزينة ومع ذلك فإنها تترك في نفسه أثرًا من الشجن لا يعرف له تفسيرًا ،
والقائمة طويلة لكني أتوقف منها أمام أغنية ليلى نظمي القصيرة "عشريين والله
يا حبايبنا عشريين" ، وأغنية سيد مكاوي "حلوين من يومنا والله وقلوبنا
كويسة" .. وأغنية نادية مصطفى "سلامات سلامات يا حبيبنا يا بلديات"
إلى آخر هذه الأغاني الموحية بالشجن بالرغم من أن كلماتها قد تدعو للابتهاج
بالحياة .
فهل ترى تفسير صديق هاوي
التحليل النفسي صحيحًا وأنه لا داعي للقلق حقًا بشأن هذه الميول الاكتئابية .. أم
تُراك ترى أن الأمر ليس بهذه البساطة ويتطلب استشارة متخصص في علم النفس وليس مجرد
هاوٍ له كصديقي هذا ؟.
نشرت في كتاب أهلا .. مع السلامة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر